Responsive image
Download as PDF View Full PDF
Responsive image Responsive image
المحتويات
مقدمة رئيس الجمعية العربية للفيزياء
مقدمة رئيس التحرير
Download PDF الثقوب السوداء وموجات الجاذبية
Download PDF نظرية الأوتار وما وراءها
Download PDF مفهوم الزمان: بين الفلسفة والعلم الحديث
Download PDF طاقة الاندماج النووى: مصدر الطاقة المستدام والنهائى
Download PDF المواد ثنائية الأبعاد وتطبيقاتها: قفزة إلى المستقبل
Download PDF رحلة فى الفيزياء والإدارة: مقابلة مع مدير المركز الدولى للفيزياء النظرية ICTP
Download PDF أخبار ومعلومات إثرائية
Download PDF استعراض لكتاب: ميكانيك الكم الحديث

مقدمة رئيس الجمعية العربية للفيزياء

Dr. Shaaban Khalil new research highlighted in Nature Middle ...

يسرني أن أرحب بكم جميعًا في العدد الأول من مجلة "مسارات في الفيزياء"، التي تعتبر نافذتنا المشرقة إلى عالم الفيزياء باللغة العربية. تأتي هذه المجلة كنتاج لجهود الجمعية العربية للفيزياء في تعزيز التواصل ونشر المعرفة بين المهتمين بمجال الفيزياء في العالم العربي.

تهدف مجلة "مسارات في الفيزياء" إلى تبسيط مفاهيم الفيزياء وتقديم الجديد والمبتكر في هذا المجال، سواء للمتخصصين الذين يبحثون عن آخر التطورات والأبحاث، أو لغير المتخصصين الذين يسعون لفهم أساسيات هذه العلوم وتطبيقاتها في حياتهم اليومية.

في كل عدد من المجلة، سنسلط الضوء على مجموعة متنوعة من المواضيع، بدءًا من النظرية الأساسية في الفيزياء وصولاً إلى التطبيقات العملية في العلوم والتكنولوجيا الحديثة. نسعى جاهدين لجعل المعرفة في مجال الفيزياء متاحة ومفهومة للجميع، وندعوكم جميعًا للمشاركة والاستفادة من محتوى المجلة وتقديم مقترحاتكم وآرائكم لتحسينها.

في ختام كلمتي، أود أن أعرب عن امتناني العميق لجميع الأعضاء والمساهمين الذين ساهموا في إنجاح هذه المبادرة، وأتطلع إلى رؤية مجتمعنا ينمو ويزدهر من خلال هذه المنصة الثقافية والتعليمية.

 

شعبان خليل


مقدمة رئيس التحرير



يسرّني أن أرحّب بقرّاء العدد الأوّل من مجلّة "مسارات في الفيزياء" الصادرة عن الجمعيّة العربيّة للفيزياء، وأتقدّم بجزيل شكري لمن ساعد على تحقيق مبادرةِ إصدار هذه المجلّة التي تُعنى بتبسيط العلوم وتقديمها بلغة فصيحة إلى القارئ العربي.

ولئن انبثقت مجلّتنا عن مبادرة سابقة لم تر النور حول إصدار مجلّة بالعربيّة باسم الفيزياء الحديثة، فقد ارتأينا اختيارَ اسم جديد لانطلاقة جديدة، ووقع الاختيار على كلمة "مسارات" ذات الوقع الموسيقي خاصّةً وأن ما تعرضه مقالاتُنا هو رحلاتٌ في عالَم الفيزياء لم تُرْوَ بعدُ قصتها النهائيّة، فنحن نسير في طريقٍ قد نخمِّن وُجهتَه ولكن لا بدّ من استكشاف التفاصيل والطرق الفرعيّة لبلوغ الهدف، ما ينسجم مع اختيارنا لاسمٍ بالإنكليزيّة Trends يحمل من بين معانيه ذاك الخاصّ بالوجهة.

نحن بانتظار مقترحاتكم، وإن كان تصوّرُنا للمجلّة يكمن في كونها مجلّةً فصليّة تحوي حوالي خمس مقالات في مجالات العلوم الفيزيائيّة والرياضيّة بمعناها الشامل (أي مواضيع متقدّمة في الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيّات أو الهندسة بشكلٍ عام)، يربو واحدُها على بضعة آلاف كلمة لكن يمكن لأساسيِّها أن يكون تفصيليًّا، كما نفترض أنها موجّهة لقارئٍ عَمومي ذي ثقافة علميّة لائقة، ولكنها قد تناقش مواضيعَ عميقةً بلغةٍ تغلب فيها الأفكار والمعاني على المعادلات والصيغ، ونرغب كذلك في أن يكتب أحدَ المقالات طالبٌ جامعيّ بمعلوماتٍ من مستوى أقرانه. تحوي المجلّة أيضًا أبواباً ثابتة من مثل مقابلةٍ مع عالِم معروف مع رابِطٍ لفيديو التسجيل، وباب الأخبار العلميّة الذي يُبقي قارئَنا على بيّنة بآخر التطوّرات، أمّا باب المعلومات الإثرائيّة فيهدف لتقديم معلومات مُفيدة لطلاّب المرحلة الجامعيّة بما في ذلك مناقشةُ إحدى المسائل المطروحة في مسابقة علميّة، أو استعراضٌ لكتابٍ مرجعيّ ننصح به.

يسرّنا أن يُجري العدد الافتتاحي (شتاء 2024) مقابلةً مع الأستاذ الهندي دابهولكار مدير المركز الدولي للفيزياء النظرية ICTP حيث يأخذنا في رحلة عميقة حول الفيزياء عمومًا ودورِه الإداري خلال تبوّئه للكرسي الذي شغله سابقاً العالِم عبد السلام ذو الرؤية الإنسانيّة بخصوص مساعدة علماء البلدان النامية. يغطيّ مقالُنا الأساسي موضوعَ الموجات الثقاليّة (الجاذبيّة) وكيف تمّ اكتشاف تولِّدها من اندماج ثقبَين أسودَين قبل مليارات من السنين، بينما تُغطي المقالاتُ المتبقيّة موضوعاتٍ متباينةً، فأحدها يناقش الأوتار في مجال فيزياء الطاقة العالِية، ويناقش مقالٌ ثانٍ الاندماج النووي، بينما يناقش مقالٌ ثالث المواد ثنائية البعد وتطبيقاتها في مجال فيزياء المادّة الكثيفة، أمّا آخرها فيعرض معالجةً فلسفيّة علميّةً لمفهوم الزمن. جرى اختيارُ بضعةِ أخبار علميّة حديثة أحدُها يعطي نُبذةً عن الحائزِ جائزةَ آبِل للرياضيّات هذه السنة، بينما نُثري طلّابَنا بمعلومة -من بين أُخرَيات- عن دالّة زيتا-ريمان وكيفيّة معالجتِها لبعض اللانهائيّات في الفيزياء.

في الختام، أعود وأقدِّم كامِل شكري لكلّ من ساهم بإخراج هذا العدد إلى الضوء، وبانتظار مساهماتكم في عدد ربيع-2024 اللاحق.

 

نضال شمعون

الثقوب السوداء وموجات الجاذبية

شعبان خليل

أستاذ فيزياء الطاقة العالية بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا

 

يمثّل اكتشاف موجات الجاذبية علامةً فارقةً من أجل فهمٍ أفضلَ لفيزياء الكون، وبدايةَ حقبةٍ جديدة في مجال علم الفلك. كما إنه أولُ اكتشاف لمنظومة ثقوب سوداء وأوّلُ ملاحظة لثقوب سوداء وهي تصطدم وتتوحد. يُعدّ استخدامُ موجات الجاذبية كمصدر جديد للاستكشاف الكوني تطورًا مهمًا يُشبه الاكتشافاتِ السابقة عبر استخدام موجات الراديو والأشعة السينية والتي أسفرت عن اكتشاف العديد من الأسرار الكونية غير المرئية بالنسبة للتلسكوبات الضوئية التقليدية. ومن خلال فتح نافذة جديدة على الكون، يمكن استخدام هذه التقنيات الجديدة لاكتشاف الثقوب السوداء وحلّ لغزها، فضلاً عن الكثير من الألغاز الكونية الأخرى وكذلك الكون المبكر وأسراره.

 

11 فبراير 2016 هو تاريخ مهم في تاريخ الفيزياء، ففيه تمّ الإعلان عن أول اكتشاف مباشر لموجات الجاذبية من خلال تعاون مشترك فى مرصد موجات الجاذبية بالليزر (LIGO) في الولايات المتحدة. كان هذا خبرًا رائعًا ومثيرًا نظرًا لأن موجات الجاذبية كانت آخر التنبؤات التي لم يتمّ التحقق منها لنظرية النسبية العامة لأينشتاين، التي تمّت صياغتها قبل حوالي 100 عام من أجل وصف الجاذبية. بعد ذلك، حصل على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2017 راينر فيس وكيب ثورن وباري باريش نظيرَ دورهم في الكشف المباشَر عن موجات الجاذبية.

انحناء في فضاء المكان والزمان

وتُعتبر النظرية النسبية العامّة، التي وضعها ألبرت أينشتاين في 1915، نظريةً هندسية للجاذبية. ففيها لا تنشأ الجاذبيةُ بسببِ قوة ما، بل تنجم نتيجةَ تقوّس فضاء المكان والزمان. وينجمُ هذا التقوّسُ عن الطاقة والكتلة الموجودة في فضاء المكان والزمان رباعي الأبعاد (المُوحَّد تحت اسم الزمكان)، كما هو موضح بالشكل 1. وبالتالي فإن الظواهر المعروفة في الميكانيكا الكلاسيكية والتي كانت تُنسب إلى عمل قوة الجاذبية، مثل السقوط الحرِّ، والحركة المدارية، ومسارات مركبة فضائية، تغدو في النسبية العامّة أمثلةً لحركة قصورية في فضاءٍ مُقَوَّس للمكان والزمان. وكانت إحدى نتائج نظرية النسبية أن حركة الكواكب المتحركة حول الشمس تختلف قليلاً عمّا يتنبأ به لها قانون نيوتن للجاذبية، وقد تمّ التأكد من هذا الاختلاف بقياس الحركة التبادريّة في مدار كوكب عطارد. والنتيجة الهامة الأخرى لنظرية النسبية أنها تنبأت بأن قوة الجاذبية ذات تأثير على جسيمات الضوء المعروفة باسم الفوتونات رغم أنها عديمة الكتلة. لقد تم التحقق من هذه الحقيقة بشكل دقيق خلال الكسوف الكلّي للشمس عام 1919 وأيضاً في العديد من التجارب الأخرى بعد ذلك، إذأصبح واضحاً أن أشعة الضوء تتجاذب مع الأجسام ذات الكتل الهائلة مثل الشمس وتنحرف عن مسارها المستقيم عند المرور بالقرب منها. بالإضافة إلى ذلك، فإن أيَّ جسم ضخم متسارع يولِّد تغييراتٍ في هذا الانحناء الذي ينتشر من مصدره في جميع الاتجاهات بسرعة الضوء، ويعرف باسم موجات الجاذبية.

تظهر الموجات الجاذبية كتموجات في نسيج الزمكان نفسه، وتنشأ نتيجة بعض العمليات مثل اندماج الثقوب السوداء أو النجوم النترونية. عندما تنتقل الموجات الجاذبية عبر الفضاء، فإنها تسبب تمددًا وانقباضًا طفيفًا في الفضاء الذي تمر فيه، كما هو موضح في الشكل التالي.

 

A blue and white background with black arrows pointing to a oval shape

Description automatically generated

 

الموجات الجاذبية: تموجات في نسيج الزمكان

 

 

ربما يكون من المفيد إجراء مقارنة بين موجات الجاذبية وموجات الكهرومغناطيسية المعروفة لدينا جميعًا، مثل موجات الضوء وأمواج الراديو والميكروويف والأشعة السينية والأشعة فوق البنفسجية وغيرها. فموجات الجاذبية تُعتبر تموجاتٍ في الزمان والمكان معًا، مما يعني أنها تنتشر في نسيج الكون. وتُسبب هذه الموجاتُ ضغطًا وتوسّعًا في فضاء الزمان والمكان المتداخل أثناء انتقالها. وبالمقابل، تتألّف الموجات الكهرومغناطيسية من تموجات في الحقل الكهرومغناطيسي، وهي التي تنتقل عبر الزمان والمكان بسرعة الضوء. تتراوح ترددات الموجات الكهرومغناطيسية عادة من هرتز إلى هرتز، بينما تتراوح ترددات موجات الجاذبيّة تقريبًا من هرتز إلى هرتز، مشابهة لترددات الصوت. لذلك يكون من السهل نسبيًّا الكشفُ عن الموجات الكهرومغناطيسية، وكذلك حجبُها، بينما يمكن لموجات الجاذبية اختراقُ مناطقَ الفضاء التي لا تستطيعه الموجاتُ الكهرومغناطيسية . حيث أن موجات الجاذبيّة لا تتبدد أو تُمتص أثناء مرورها عبر المادة، لذلك فإنها تسمح بمراقبة اندماج الثقوب السوداء وربما أجسام غريبة أخرى في الكون البعيد. هذه النظم لا يمكن مراقبتها بوسائل تقليدية مثل التلسكوبات البصرية أو التلسكوبات الراديوية، لذا فإن علم الموجات الجاذبيّة يقدم رؤى جديدةً في عمل الكون. في علم الفلك، تم استخدام الموجات الكهرومغناطيسية منذ فترة طويلة لإنشاء صور للأجسام السماوية، بينما تقدِّم الموجات الجاذبة منظورًا مميزًا، مشابهًا للاستماع إلى الأصوات التي تنبعث من هذه الظواهر الكونية، مما يوفّر منهجًا جديدًا لفهم أسرار الكون.

لوحِظ وجودُ موجات الجاذبيّة أوّلاً في السبعينيات، عندما تمّ رصْدُ تقلّصٍ بطيءٍ بمرور الوقت في مدار النجم النابِض (pulsar)، وهو نجم نتروني مُمغنَط للغاية -يُصدر أشعة من الإشعاع الكهرومغناطيسي خارج أقطابه المغناطيسيّة- دوّارٌ مع نجم آخر حول مركز مشترك للكتلة. إن تقلّصَ المدار، الذي تنبأت به النظرية النسبية، يرجع إلى الطاقة المنبعثة في شكل موجات الجاذبيّة. ومع ذلك، كانت موجات الجاذبيّة هذه ضعيفةً ويصعب اكتشافها. لذلك ركّز فريق LIGO على موجات الجاذبية الناتجة من ثقبَين أسودَين ضخمَين تبلغ كتلتهما أكثر من 36 و 29 ضعف كتلة الشمس، تمّ دمجهما لتشكيل ثقب أسود بكتلة 62 مرة كتلة الشمس، على بعد حوالي 1.3 مليار سنة ضوئية. وتحولّت الكتل المفقودة (ثلاث أضعاف كتلة الشمس) إلى موجات جاذبيّة قويّة بما يكفي لاكتشافها بواسطة أجهزة على الأرض.

اندماج ثقبين أسودين

 

من الجدير بالذكر أن الثقوب السوداء هي أجسام ذات مجالٍ (حقلٍ) تجاذبيّ كبير جدا لدرجة أنه لا يوجد شيء يمكنه الإفلات من جاذبيتها، وحتى أشعة الضوء التي تدخل المدى المحيط بها لا تخرج منه ولذلك تظهر هذه الأجسام معتمةً تمامًا. إن قوةَ المجال التجاذبي للثقوب السوداء يعادل أكثر من مليون نجم مثل الشمس مجمعٍ في مركز مجرة، ويعتقد العلماء أن الثقوب السوداء قد تكوّنت من نجوم انهارت وكوّنت أجساماً ذاتَ كثافةٍ لانهائية. فكما هو معلوم، إن الاندماج النووي في مركز أيّ نجم يُنتج إشعاعاً كهرومغناطيسيّاً يولِّد ضغطًا هائلا للخارج، وهذا الضغط يعادل قوةَ السحب للداخل الناتجة عن الجاذبية ممّا يسبّب اتّزانَ النجم. ومع نفاذ الوقود النووي تبدأ القوى الطاردة للخارج في التلاشي مما يؤدي الي تفوّق قوى الجاذبية في ضغط النجم إلى الداخل. يُسبِّب هذا الانقباضُ زيادةَ درجة حرارة النجم ما يسمح للمواد النوويّة المتبقية من أن تُستخدَم كوقود يساهم في اتزان النجم بعد انقباضه، وهكذا تتكرّر هذه العملية إلى أن ينفذ الوقود النووي تمامًا ممّا يؤدي إلى انهيارٍ كلّيّ للنجم. يتوقف حجم انهيار النجم ونوع الجسم الناتج عنه على كتلة هذا النجمـ فإذا كان النجم ذا كتلة هائلة أكبرَ من حدٍّ مُعيَّن فإنه ينهار إلى ثقب أسود؛ أمّا إذا كانت كتلته أقلّ من ذلك فإنه قد يتحوّل إلى ما يُعرف باسم القزم الأبيض أو النجم النتروني. فعلى سبيل المثال، يتحوّل نجمٌ كتلته حوالي ثماني أضعاف كتلة الشمس بعد انهياره إلى قزم أبيض يعادل حجمُه حجمَ كرتنا الأرضية فقط، وبالطبع النجوم ذات الكتل الأكبر سوف تنهار إلى أجسام أصغر في الحجم. ومن الجدير بالذكر أن ملعقةَ شاي صغيرة من مادة القزم الأبيض تزن حوالي أكثر من خمسة أطنان من مادة الأرض. وهناك العديد من الأقزام البيضاء في مجرّتنا وأوّل هذه الأجسام اكتشافًا هو ما يعرف بأسم القزم الأبيض Sirius B . أما بالنسبة للنجوم التي تصل كتلتها إلى حوالي 20 ضعف كتلة الشمس فإنها تنهار إلى ما يعرف بالنجوم النترونية، حيث تزن ملعقة شاي واحدة منها حوالي 100 مليون طن، وحتى الآن لم نتمكن من اكتشاف أيّ من تلك النجوم النترونية في الكون. وإذا زادت كتلة النجم عن هذا الحد فإنه يتحوّل بعد الانهيار إلى ثقب أسود حيث تنعدم فيه أيّ قوة طاردة للخارج، ولذلك يستمر في الانهيار إلى أن يصل لما يعرف بالحجم الحرِج. في عام 1994 أكّد تلسكوب هابل وجودَ ثقب أسود في مركز المجرة M87 حيث دلّت إشارة السرعات العالية للغازات في هذه المنطقة على حتميّة وجودِ جسم تبلغ كتلته من 2.5 الي 3.5 بليون مرة من كتلة الشمس.

ويرجّح العالم الإنجليزي ستيفن هوكنج أن هناك العديدَ من الثقوب السوداء تكوّن في البدايات الأولى للكون، وإذا كان هذا الأمرُ صحيحاً فقد يكون هناك العديدُ من الثقوب السوداء في الفراغ ولكنها بعيدة عنّا جدًا بحيث يصعب أكتشافها، ولكنها قطعًا تمثِّل نسبةً مهمة من المادة الكلية للكون.

أول صورة للثقب الأسود

 

للكشف عن التغيير الصغير في المسافة الناجم عن مرور موجات الجاذبيّة في المكان، يستخدم العلماء أجهزةً دقيقة للغاية تُعرف باسم مقاييس التداخل. تقوم هذه الأجهزة بقياس أنماط التداخل لأشعة الليزر المنعكسة بين المرايا الموضوعة عند أطراف أنابيب فارغة طويلة. عن طريق مراقبة التغيّرات في أنماط التداخل الناتجة عن تمدد وضغط الزمكان بسبب موجات الجاذبية، يمكن للعلماء استنتاجُ وجودِ هذه الموجات العابرة للزمكان وتحديد خصائصها، وهذا ما تمّ تحقيقُه في تجربة LIGO. تتألّف هذه التجربة من موقعَين رئيسيَّين، وهما LIGO Livingston في لويزيانا وLIGO Hanford في واشنطن، حيث احتوى كلّ موقع على منظومة متطورة من الأنابيب الطويلة، يبلغ طول كلّ منها حوالي 4 كيلومترات.

 

يُعتبر جهازُ مقياس التداخل في تجربة LIGO تطويرًا متقدمًا لتجربة Michelson-Morley التاريخية التي أُجريت في عام 1887 لمقارنة سرعة الضوء في اتجاهين متعامدَين من أجل اكتشاف الحركة النسبية للضوء من خلال الأثير، والتي أدّت إلى نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين. تمّ تصميمُ جهاز LIGO لاكتشاف الحركة النسبية للضوء والتغييرات الدقيقة في المسافة بين المرايا نتيجةً لتأثير الموجات التجاذبية، ويتكوّن من ذراعين بطول يُقدَّر بنحو 4 كيلومترات لكلّ منهما وبزاوية قائمة بينهما مع مرايا في نهايتَيهما ، حيث تُحفَظ هاتان الذراعان في أنابيب مفرغة للحماية من العوامل الخارجية. في هذه التجربة، تُرسَل أشعة الليزر إلى مُقسِّم الشعاع، حيث يُقسَم إلى نصفَين ويتّجه كلّ نصفٍ إلى ذراع من الذراعين المتعامدتَين. بعد ذلك، يُعكس الضوء عند نهاية كل ذراع باستخدام المرايا الموجودة هناك. يتمّ إرسال الضوء العائد بعد 400 انعكاس من المرآة في كل ذراع، ليتمّ جمعه مرة أخرى في مُقسِّم الشعاع ورصده عن طريق كاشف الصور. وتقوم المنظومة بقياس الفرق بين الضوءَين الواردَين لتحديد أيِّ تغيِّر في طول الذراعين حدث بسبب موجات الجاذبية. لقد تمّ تصميم جهاز مقياس تداخل LIGO بدقة تصل 0.00001 من عرض البروتون (والبروتون هو أحد الجسيمات التي تشكل نواة الذرة). في حالة وجود تغييرٍ في المسافة بين المرايا نتيجة لتمدّد أو انقباض الزمكان بسبب الموجات التجاذبية، فإن نمطَ تداخلٍ لأشعة الليزر العائد يتشكّل، وهذا ما يتمّ قياسه بواسطة LIGO. استنادًا إلى هذه القياسات، تمكّن فريق LIGO من اكتشاف وتأكيد وجود موجات الجاذبيّة وتحديد خصائصها بدقة.

تترك نظريةُ الانفجار العظيم التي تقدّم وصفًا ناجحًا جدًّا لتطوّر الكون على مدى الأزمنة العديدَ من الأسئلة بدون أجوبة، ومنها -على سبيل المثال- سبب تجانس الكون الهائل على النطاق الواسع. قد يبدو الكون المرئي غيرَ متجانسٍ، حيث تتوزّع النجومُ والمجرات وعناقيد المجرات توزيعًا غيرَ متساوٍ بالنسبة للكتلة، إلّا أن كلَّ هذه التشكيلة في الكون لا تشغلُ إلّا نطاقًا ضيّقًا جدًا، وإذا ما أخذنا متوسّط هذه الكتل بالنسبة لبقية أجزاء الكون والتي تزيد عن 300 مليون سنة ضوئية، فإن الكونَ يبدو متجانسا تماما. إن تجانسَ النطاقِ الواسعِ هذا يتجسّد بشكلٍ أكثرَ وضوحًا في إشعاع الخلفية الكونية CBM (Cosmic Microwave Background) المتماثلة للغاية في اتجاهات مختلفة لدرجة أن الفرق بين درجات الحرارة في اتجاه معين وعكسه يصل إلى واحد في مائة الألف. تمّ تفسيرُ هذا التماثل من خلال نموذجٍ جديد للكون الموغِل في القدم يُعرف باسم الكون التضخمي، حيث اتّسع الفضاء بمعدّل كبير في وقت قصير جدًا، في غضون 10-34 من الثانية. خلال هذه الفترة الصغيرة جداً، كان الكون قد تمدد -أو تضخّم- بنسبة هائلة، حيث تضاعف حجمه بحوالي 1075 مرّة. أول من أقترح نموذج الكون التضخمي في عام 1981 هو العالم A. Guth. وبالتالي إذا لم تكن هذه التوسعةُ متماثلةً في جميع الاتجاهات، فإنها من الممكن أن تكون قد أصدرت إشعاعَ جاذبيّةٍ يمكن اكتشافه اليوم كخلفية لموجات الجاذبيّة GWB (Gravitational Waves Background). إن إشارةَ موجات الجاذبيّة الأوليّة (الناتجة عن الكون الموغل في القدم) ضعيفةٌ جدًا بحيث لا يمكن لأيّ جهازِ كشفٍ حاليّ للموجاتِ التجاذبية أن يلاحظها، ويُعتقد أن الأمرَ قد يستغرق عقودًا قبل أن نتمكّن من إجراء مثل هذا الاكتشاف.

لكن في عام 2023، أعلنت فرق بحوثٍ متنوّعة ( NANOGrav و EPTA و PPTA و IPTA ) أنها وجدت أدلة على وجود خلفيّة عامة لموجات الجاذبية. ويؤكد مرصد شمال أمريكا نانوهيرتز لموجات الجاذبية بأنه تمّ توليدُها على مدى فترات زمنية كونية من قبل ثقوب سوداء فائقة الكتلة. تمّ نشر نتائج مماثلة من قبل المجموعة الأوروبية لمراقبة توقيت نجم نتروني، حيث يُتوقَّع تحقيقُ نتائجَ اكتشافٍ تصل إلى مستوى موثوقيّة 5s بحلول عام 2025. تتميّز موجات الجاذبية هذه عن الأنواع التي تم الإبلاغ عنها سابقًا من مرصد تداخل الليزر لموجات الجاذبية (LIGO) وأجهزة الاستشعار الأخرى الموجودة على الأرض بأنها لن تكون جميعُها قابلةً للتتبّع إلى أحداث الدمجِ الفردية: إنها سوف تُشكِّل ما يسمى بالخلفيّة الجاذبية GWB.

إن مستقبل الكشف عن موجات الجاذبية واعدٌ للغاية وذلك من خلال تحسين التقنيات، حيث سيتمّ تحسين حساسية الأجهزة الحالية مثل LIGO وVirgo وKAGRA، وبما يُزيد من قدرتها على اكتشاف الأحداث الفلكية مثل اصطدامات الثقوب السوداء والنجوم النترونية، وكذلك من خلال توسيع الشبكة العالمية للمراصد، فبالإضافة إلى المراصد الحالية، سيتمّ إنشاءُ مزيدٍ من المراصد في مواقع مختلفة حول العالم، ما يُزيد من فرص رصد الأحداث الفلكية وتحديد مواقعها بدقة أفضل. علاوةً على ذلك، سوف يسمح لنا اعتمادُ وتطويرُ مهامّ وإرساليّات فضائية مثل eLISA بالكشف عن موجات الجاذبية من مصادر أكبر، ممّا يوسع نطاق الاكتشافات ويفتح الباب أمام فهمٍ أعمق لظواهر الكون. وأخيرًا، يساعد تطوير التقنيات التحليلية لموجات الجاذبية في فهم خصائص الإشارات بشكل أفضل واستخلاص المزيد من المعلومات منها. نذكر أيضاً في هذا السياق وجودَ فرصٍ متزايدة لرصد موجات الجاذبية الأوليّة التي نشأت في الكون المبكر.

إن موجات الجاذبية الأولية هي تموجات في النسيج الزمكاني نتجت عن العمليات الكونية في المرحلة الأولى من تاريخ الكون، مثل الجاذبية الكمومية والتضخم الكوني. هذه الموجات ضعيفة نسبياً، ورصدها يشكّل تحديًّا كبيرًا، ولكن مع تطور التقنيات الحديثة وزيادة حساسية المراصد، من الممكن أن نتوقع تحسناً في القدرة على رصد هذه الإشارات. على سبيل المثال، قد تساعد تقنياتٌ معيّنة -من مثل مشاريع تحسين حساسية LIGO وVirgo، بالإضافة إلى المشاريع المستقبلية مثل تلسكوب أينشتاين- في تحسين فرص الكشف عن موجات الجاذبية الأولية، وكذلك قد توفّر مهمّة eLISA فرصاً جديدة لرصد موجات الجاذبية الأوليّة بشكل أكبر وبدقة أعلى. بالطبع، مع تقدم البحوث والتطور التكنولوجي، قد نحصل على فهم أفضل وأكثر دقة للكون الموغل في القدم وتأثيراته على تشكيل هيكل الكون الحالي.

أخيرًا، يجب الإشارة أنه على الرغم من أن العمليات التي تولِّد الموجات الجاذبية القابلة للقياس تكون عنيفةً للغاية، إلا أنه بمجرد وصول هذه الموجات إلى الأرض، فإنها تكون قد ضعفت بآلاف مليارات مرة ، تمامًا كما تصبح الأصواتُ أضعفَ عندما تتحرك بعيدًا عن المصدر. من أجل ذلك، قد تُسبّب موجات الجاذبيّة انضغاطًا طفيفًا في أجسادنا بمقدار جزء من مليون متر، وهذا أقلّ بكثير من الضغط الذي نشعر به عندما نقفز ونهبط على الأرض.

 

خلاصة:

في الختام، يعد اكتشاف موجات الجاذبية في 11 فبراير 2016 إنجازًا تاريخيًا في مجال الفيزياء، وهو يؤكد على دور العلم والبحث العلمي في توسيع آفاق معرفتنا وفهمنا للكون. من خلال تأكيد نظرية النسبية العامة التي وضعها ألبرت أينشتاين قبل قرن من الزمن، أثبت العلماء أن التفاعلات الفيزيائية الأكثر تعقيداً يمكن فهمها وتفسيرها بواسطة العقل البشري والأدوات التقنية المتقدمة.

 

تعكس جائزة نوبل التي حصل عليها العلماء المشاركين في هذا الاكتشاف قيمة البحث العلمي والتعاون الدولي في تحقيق التقدم العلمي. ومن خلال استمرار الدراسات والأبحاث في مجالات الفيزياء والفضاء، يمكننا توقع مزيد من الاكتشافات الرائعة التي ستغير منظورنا للعالم وتعزز فهمنا لعمق وتعقيدات الكون الذي نعيش فيه

بعض المراجع:

1.  Castelvecchi, Davide; Witze, Witze (11 February 2016). "Einstein's gravitational waves found at last". Nature News, doi:10.1038/nature.2016.19361.

2.  Michio Kaku, Einstein's Cosmos: How Albert Einstein's Vision Transformed Our Understanding of Space and Time, ISBN: 9780393051650,039305165X

3.  Kitchin, C.R., Understanding Gravitational Waves, Springer press, https://doi.org/10.1007/978-3-030-74207-2

4.  Seth Fletcher, The First Picture of the Black Hole at the Milky Way’s Heart Has Been Revealed, Scientific America, May 2022.

5.  Alan H. Guth and Paul J. Steinhardt , The Inflationary Universe, Scientific American, May 1984

خبر علمي:

 

المُصادِم الدائري المستقبلي FCC

مشروع بناء مُصادِم جديد في مخبر السيرن

تدرس منظمةُ سيرن الأوروبية للأبحاث النووية مُقترَح بناء مصادِم جديد -يُسمّى المُصادِم الدائري المستقبلي FCC أكبر بثلاث مرّات من المُصادِم الهادروني الكبير LHC، وبتكلفة مبدئيّة حوالي 20 مليار يورو. بينما يبلغ قطر الـ LHC 27 كم وتبلغ طاقته الأعظميّة 14 تيرا إلكترون فولط، سيبلغ قطر الـ FCC 91 كم وستبلغ طاقته الأعظميّة 100 تيرا إلكترون فولط. بالنسبة للبعض يُمثل هذا المشروع الطموح استثمارًا كبيرًا في البحث الأساسي، بهدف دفع حدود فهمنا لفيزياء الجسيمات والقوى الأساسية للطبيعة، فإذا تمّ تحقيقه، يمكن أن تؤدّي هذه الآلة إلى اكتشافات رائدة تعمِّق معرفتَنا بالعناصر الأساسية للكون، مثل طبيعة المادّة العاتمة أو ماهيّة الطاقة العاتمة. ولكن بالنسبة لآخرين لا يوجد أيّ تأكيد بقدرة هذه الآلة المستقبليّة على تحديد هويّة المادّة والطاقة العاتمة، وجلّ ما ستفعله هذه الآلة هو تحسين الدقّة في قياس بعض بارامترات النموذج المعياري، وبالتالي إنفاق هذه المبالغ الضخمة ليس مُسوَّغاً على الإطلاق، بخلاف الـ LHC حيث كان الدافعُ الرئيس وراءه هو الكشف عن جسيم الهيغز، وهذا ما تحقّق فعلاً. مرجع

 


 

Default Normal Template

نظرية الأوتار وما وراءَها

نضال شمعون

أستاذ في المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا، دمشق، سوريا

 

خلاصة: نتعرّض بشكلٍ وصفيّ لنظريّة الأوتار، ونبيِّن أن صورَها الخمس ما هي إلاّ أوجه لنظريّة واحدة أعمق لا زالت بنيتُها التفصيليّة مجهولةً، ثم نتعرّض لبعض التطبيقات في عالَم الغشائيّات والتطوّرات الحديثة في مفاهيم "المشهد الوتري" و"أرض المستنقعات".

 

نظرية الأوتار هي المرشح الأهمّ الذي يجمع بين النسبية العامة وميكانيك الكم. تعتبر هاتان النظريتان الأساس الذي تقوم عليه فيزياء اليوم وتصلح النسبية لوصف المظاهر العيانية الكبيرة والثقيلة (كالنجوم والمجرات) بينما يصلح ميكانيك الكم لوصف الأشياء الصغيرة والخفيفة (مثل الذرات). احتاج الفيزيائيون في دراستهم لظواهر الطبيعة حتى الآن إلى تطبيق إحدى هاتين النظريتين فقط ولم يتعرضوا إلى ضرورة تطبيقهما معاً. مع ذلك تصبح الأشياء في مراكز الثقوب السوداء ثقيلة وصغيرة مما يعني الحاجة إلى تطبيق النظريتين معاً هناك، وهنا يظهر التعارض بين بنيتَيهما.

لرؤية هذا التعارض نذكّر بأن أساسَ النسبية العامة هو الهندسة الريمانية القائلة بأن الخلفية الزمكانية هي متنوع (منطوٍ manifold) أملس يسبب وجودُ الكتل فيه تشوهاتٍ في بنيته تنتقل بسرعة الضوء وتعبّر عن حقل الثقالة (الجاذبيّة gravity). حيث أن لبَّ ميكانيك الكم ذو علاقة وثيقة بعلاقات الارتياب لهايزنبرغ فإن الفراغ الكمومي يعج بتراوحات هائجة تسمح باستيراد طاقة تكفي لخلق أزواج من الجسيمات وأضدادها تدوم لفترة قصيرة يفني بعدَها بعضُها بعضاً، وبالتالي فإن حالةَ الخلاء الكمومي ليست ملساء كما تفترض الهندسة الريمانية في حال رغبنا بإيجاد نظرية كمومية للثقالة، وهذا مكمن التعارض بين النظريّتَين.

تُخفِّف نظرية الأوتار من هذا التعارض وبالتالي يمكن اعتمادها لإنشاء نظرية كمومية عن الثقالة. علاوة على ذلك تسمح النظرية بالإجابة عن أسئلة جوهرية لا تتعرض لها النظريات الأخرى، فمثلاً نعرف أن الجسيمات الأولية التي تكوّن اللَّبِناتِ الأساسيةَ للكون تأتي ضمن ثلاث عائلات تتدرّج في قيم كتلها التي تُعتبَر معطياتِ دخلٍ لنموذج واينبرغ-سلام المعياري الذي يوصِّف الجسيماتِ الأوليةَ دون السؤال عن سبب امتلاكها لقيم كتلها. تطرح نظرية الأوتار على نفسها مثل هذه الأسئلة الجوهرية فتسأل لماذا البروتون أثقل بحوالي 2000 مرة من الإلكترون وتسأل عن سبب وجود عائلات ثلاث فقط في الطبيعة، ومن أجل ذلك تسمّى أحياناً بـ"نظرية كلّ شيء".

ابتدأت نظرية الأوتار تاريخياً أواخر الستينات حيث فكّر فينيزيانو Venezianno بتوصيف القوى الشديدة بين كواركَين من خلال أوتار تصل بينهما وكلما ازداد الشدّ ازدادت إمكانية انفصام الوتر وبالتالي خلق كوارك وكوارك مضاد ممّا يتوافق مع فكرة احتجاز الكواركات. لم تتوافق النتائج النظرية لهذه الصورة مع المعطيات التجريبية ولذلك غُضَّ الطرف عن النظرية في بادئ الأمر، ولكن ما لفت النظر لها هو البرهانُ عامَ 1974 على وجوب النظر إلى الأوتار على أنها نظريةٌ لجميع القوى بما في ذلك الثقالية وأن سبب فشل الأوتار السابق هو حصر استخدامها خطأً لوصف القوى النووية الشديدة فقط. تكمن الفكرة الأساسية في الأوتار على أن اللّبِنة الأساسية للكون هي الوتر وعلى أن جميع الجسيمات الأولية مع جسيمات الرسل المسؤولة عن انتقال القوى، مُعبِّرةً عن كمّاتها، إنما هي أنماط اهتزازية لهذا الوتر الأساسي. وُجِد أن هناك دوماً نمطاً اهتزازياً كتلته معدومة وتدويمه (سبين) مساولـ 2، بما يوافق جسيمَ الغرافيتون (الجُذبون) الافتراضي المعبِّر عن كمّات الثقالة، وبالتالي ننظر إلى الأوتار على أنها نظرية كمومية قادرة على وصف الثقالة. بما أننا لا نرى هذه الأوتار فإننا نتوقع طولها صغيراً جداً من مرتبة طول بلانك ، يوافق توتّراتٍ كبيرةً جداً من مرتبة طاقة بلانك، ولكن بسبب وجود التراوحات الكمومية فإنه هناك أحياناً حذوفات كبيرة بينها، وهذه حال الجسيمات الأولية الخفيفة التي نراها في كوننا بطاقات أصغر بكثير من طاقة بلانك (في حالة الغرافيتون هناك حذف تام بين طاقات التوتّر البلانكية وطاقات التراوحات الكمومية).

كيف تعالج الأوتارُ التعارضَ بين النسبية العامة والكم؟ إذا ما نظرنا إلى حادثة تبعثر جسيمين عبر جسيم رسول فإن نظريات الحقول الكمومية تعرّف حادثةً في الزمكان يتم فيها التبعثر بين الجسيمين حيث يُخلق الجسيم الرسول.

الشكل 1: تقول نظريات الجسيمات النقطية بوجود نقطة واحدة يتمّ فيها التآثر بين جسيمين متبعثرين.

من وجهة نظرية الأوتار، لا توجد حادثة واحدة (نقطة هندسية في الزمكان) يتفّق جميع المراقبين على حدوث التآثر فيها. يكفل توزيعُ التآثر بين نقاط عديدة إزالةَ المقادير اللانهائية الشاذة التي تظهر في نظريات الحقول الكمومية عندما يتمركز في نقطة واحدة.

الشكل 2: من وجهة نظرية الأوتار، لا يمكن القول بوجود نقطة واحدة يتّفق جميع المراقبين على حدوث التفاعل فيها.

 

ينبغي على الأوتار في حال توصيفها لفرميونات أن تتمتّع بالتناظر الفائق، وتبيّن الحسابات أنه من أجل انسجام النظرية (وبصورة خاصة، من أجل عدم الحصول على قيم سالبة للاحتمالية) لا بد للكون في النظرية من امتلاك تسعة أبعاد مكانية يهتز فيها الوتر. إن فكرة الأبعاد الإضافية ابتكرها كالوزا وكلاين في العشرينيات وهدفا فيها لتوصيف الكهرطيسية في أربعة أبعاد من خلال اعتبار الثقالة في خمسة أبعاد، بينما وجود الأبعاد الإضافية في نظرية الأوتار هو نتيجة حتمية تقتضيها النظرية. تلتف هذه الأبعاد الإضافية على نفسها ضمن بناء هندسي عليه أن يحقّق بعض الخواص من أجل تضمين التناظر الفائق، وأبسط أشكاله كعكاتٌ مجوّفة (طارات Tori) وأفضل منها ظواهرياً نوعٌ خاص من الفضاءات الرياضياتية تُعرف باسم فضاءات كالابي-ياو.

بعد الثورة الأولى للأوتار في الثمانينيّات مع البرهان على عدم وجود الشذوذات anomaly في النظرية (لابدّ لأي نظرية كمومية مقبولة أن تغيب فيها هذه الشذوذات التي ترافق غياباً لتناظرات كلاسيكية ناجماً عن تكميم النظرية)، كانت هناك خمس طرق لتضمين التناظر الفائق في الأوتار وبالتالي كان لدينا خمس نظريات أوتار تدعى: نظرية النوع الأول I، نظرية النوع الثاني IIA، نظرية النوع الثاني IIB، نظرية النوع المتغاير O (Heterotic O) ونظرية النوع المتغاير E (Heterotic Eولم نعرف لفترة طويلة كيفية اختيار واحدة منها. لتبيان الاختلافات بين النظريات هذه، نشير إلى أن الاهتزازات التي تلحق بعروة وترية تجري، بصورة مبسّطة، إمّا باتجاه عقارب الساعة أو بعكسه. تختلف نظرية IIA عن نظرية IIB في أن نوعي الاهتزازين هذين يتماثلان (يتعارضان) في النظرية اللاحقة (السابقة)، فتدوّم الجسيمات في اتجاه (اتّجاهَين) واحدٍ (اثنَين)، أي أن لها نوعاً (نوعَين) من اللاانطباقية chirality، فنقول عنها إنها انطباقية (لاانطباقية). أما نظريتا النوعين المتغايرين، فتختلفان في أن كل واحد من اهتزازاتها باتجاه عقارب الساعة يبدو كاهتزاز النوع الوتري الثاني (سواء أكان في IIA أم IIB لأنهما متماثلان عندما نقتصر على هذا الاتجاه)، لكن اهتزازاتها بعكس هذا الاتجاه فهي كاهتزازات نظرية الوتر البوزوني الأصلية. ورغم ما يثيره هذا الوتر البوزوني من صعوبات لا يمكن التغلّب عليها، فقد بُيِّن سنة 1985 أن نظريةً كاملةً ودقيقة تظهر عند دمج نظرية الوتر البوزوني التي تقتضي 26 بعداً زمكانياً مع نظرية النوع الوتري الثاني التي تقتضي عشرة أبعاد زمكانية فقط، أي أن إنشاء الوتر المتغاير يشكّل هجيناً غريباً تجري فيه الاهتزازات في 10 أبعاد أو 26 بعداً بحسب كونها تجري باتجاه عقارب الساعة أوبعكسه! مع ذلك، تلتفّ الأبعاد الإضافية الستة عشر في نظرية الوتر البوزوني حول ذاتها بإحكامٍ في هيئة شكلٍ من بين شكلين خاصَّين جداً لطارةٍ ذات أبعاد كثيرة، مولّدة النوعين المتغايرين O وE، اللذَين يسلكان بسبب الالتفاف المُحكَم كما لو كانا نظريةً ذات عشرة أبعاد فقط كما نظرية النوع الثاني. نشير أخيراً إلى أن نظرية النوع I قريبة جداً من نظرية IIB باستثناء أن فيها بالإضافة إلى العرى الوترية المغلقة أوتاراً ذات نهايات طليقة تُعرف بالأوتار المفتوحة.

هناك نوع آخر من الحركة للوتر لا يتوافر في حالة الجسيمات الأولية إذ يمكن له الالتفافُ حول بُعدٍ إضافي سنفترضه للتبسيط على شكل خرطوم سقاية، وتتحدّد كتلة الوتر الأصغرية من مقاس هذا البعد الدائري وعدد مرات الالتفاف، وبالتالي يمكن تصنيف حركة الوتر الاهتزازية إلى:

اهتزازات تأرجحية تنقسم إلى اهتزازات عادية (يتم حذف أغلبها مع التراوحات الكمومية في حالة الجسيمات الخفيفة) واهتزازات منتظمة توافق حركةً انزلاقيةً للوتر على طول الخرطوم، أما النوع الآخر من الاهتزازات فهو اهتزازات التفافية حول الخرطوم. هناك مثنويةٌ، تسمى مثنوية T، بين نصف قطر البعد الإضافي ومقلوبه ، توافق في الحقيقة تبديلاً للاهتزازات المنتظمة مع الاهتزازات الالتفافية، حيث تتناسب طاقة الوتر في الأولى (الثانية) عكساً (طرداً) مع R. تسمح هذه المثنوية بالقول إن هناك كوناً فيزيائياً واحداً (جسيماتٌ بقيمِ كتلٍ معطاة) ناجماً عن فضاءين رياضياتيين مختلفَين ، مما يسمح أحياناً بحلّ مشاكل رياضياتية معقدة في فضاء أول ما عبر الذهاب إلى الفضاء الثاني والذي يقتضي الكونَ الفيزيائي نفسَه للأول.

الشكل3: النظرية الأم وعلاقتها بالصور الخمس لنظرية الأوتار. يعني الرمزL.E. انتقالنا إلى مجال الطاقات المنخفضة، أمّا الرمز cc<<1 فيعني أن ثابت الربط صغير جداً وبالتالي يمكن تطبيق نظرية الاضطرابات. ترمز S-W duality إلى مثنوية ثابت الربط القوي-الضعيف، أمّا T-duality فترمز إلى المثنوية الهندسية بين نصف القطر ومقلوبه.

 

بقيت معالجتنا لنظرية الأوتار لغاية منتصف التسعينات اضطرابيةً، وكمنت المشكلة في أنه -على خلاف ما اعتدناه عند تطبيق نظرية الاضطرابات في ميكانيك الكم، حيث نعرف المعادلة ولكن نحصل على تقريب جيد للحل- لدينا في نظرية الأوتار صيغ تقريبية فقط عن معادلاتها المجهولة، ولا نعرف فيما إذا كانت نظرية الاضطرابات صالحة للتطبيق أم لا. استمر ذلك حتى بزوغ الثورة الثانية عام 1995 عندما فاجأ إدوارد ويتن Edward Witten نظريي الأوتار باقتراحه استراتيجية جديدة غير اضطرابية لمعالجة المسائل، وبيّن أن النظريات الخمس السابقة ما هي إلا صور خمس مختلفة لنظرية واحدة تضمّها كلَّها سماها باسم نظرية الـM (النظرية الأم الشمولية) والتي لا نعرف عنها الكثير لغاية الآن. ما بيّنته الأبحاث اللاحقة هو وجود علاقات مثنوية قوية بين النظريات الخمس فمثلاً تسمح المثنوية الهندسية T بالانتقال من نظرية E إلى O. وفوق ذلك هناك مثنوية ثابت الربط القوي-الضعيف التي تسمح بالانتقال من نظرية I إلى O حيث يمكننا الانتقال من وصف نظرية O في حالتها اللااضطرابية، عندما يكون ثابت الربط كبيراً فلا يمكن تطبيق نظرية الاضطرابات، إلى وصفٍ مكافئ لنظريةI في حالتها الاضطرابية عندما يكون ثابت الربط ضعيفاً وبالتالي يمكننا إجراء الحسابات. بيّن ويتن أمراً آخرَ لافتاً للنظر وهو أننا غفلنا عن وجود بعدٍ آخر في دراساتنا السابقة وبالتالي فإن كوننا بأحد عشر بعداً زمكانياً (10 مكاني و 1 زماني). كيف نوافِق ذلك مع وجود تسعة أبعاد مكانية يهتز فيها الوتر؟ ما بيّنه ويتن هو وجود بعد مكاني آخر في بنية الوتر نفسه لا يتحرّك ضمنَه ولا يبدو للعيان إلا إذا زدنا الطاقة كثيراً. أدى ذلك إلى وجود كائنات جديدة في كوننا وليس الوتر هو اللّبِنة الأساسية الوحيدة في الكون، بل هو حالة خاصة في عالَم الغشائيات حيث يمثّل الوترُ الغشائيةَ الأحادية فيه وهناك غشائيات ثنائية وثلاثية و...... تساعية.

ما بيّنته الأبحاث كذلك هو وجود علاقة وثيقة بين نظرية الأم المجهولة ونظريات تكميم الثقالة النقطية التي ابتدأت في الثمانينات قائمةً على أساس الجسيمات النقطية، ووجدنا منها أربع نظريات كمومية في عشرة أبعاد ونظرية واحدة بأحد عشر بعداً. إذا ما نظرنا للوتر من بعيد فإنه سيبدو كنقطة، وتَبيّن أن النظريات الخمس المختلفة للأوتار يمكن تقريبها ضمن هذه الرؤية بالنظريات الأربع للثقالة الكمومية ذوات الأبعاد العشرة، بينما بقيت نظرية الثقالة الكمومية في أحد عشر بعداً أمراً مقبولاً رياضياتياً ولكن بدا أنْ لا علاقة لها بالفيزياء. بيّن ويتن عبر الثورة الثانية أن نظرية الـ M عندما ننظر لها من بعيد يمكن تقريبها بهذه النظرية ذات الأبعاد الأحد عشر للثقالة الكمومية، وتكون قد اكتملت بذلك الحلقة.

تطوّرات حديثة

عانت نظرية الأوتار قبل بزوغ ثورتها الثانية طويلاً من استحالة اختبارها تجريبياً. كما ذكرنا، الطول النموذجي للوتر هو من مرتبة طول بلانك، وبالتالي يلزمنا من أجل سبره طاقة كبيرة من مرتبة طاقة بلانك: 1.2 x 1019 GeV. يعني ذلك من ناحيةٍ عملية أنّ جميع الجسيمات الأولية يمكن إهمال كتلتها مقارنةً مع كتلة الوتر النموذجية التي تفوق بـ 1016 مرة الطاقات التي يمكن بلوغها في المسرّعات الحالية، وبالتالي لا يمكن في المستقبل المنظور اختبار هذه الفرضيات عن الأوتار.

طرح أركاني-حامد Arkani Hamed وديموبولوس Dimopoulos ودفالي Dvali عام 1998 تساؤلاً عن إمكانية أن تكون قوى الثقالة وحدها تشعر بوجود الأبعاد الإضافية، بينما جميعُ القوى الأخرى بالإضافة إلى الجسيمات المادية محتجزةٌ ضمن "غشائية" بثلاثة أبعاد مكانية.

الشكل 3: تعيش الجسيمات المادية والقوى غير الثقالية ضمن غشائية بأبعاد مكانية ثلاثة، بينما تستطيع غرافيتونات الثقالة الولوج إلى الأبعاد الإضافية

 

بيّن هؤلاء النظريون أنه لو كان ذلك صحيحاً لأدّى ذلك إلى نتيجة مذهلة وهي إمكانية وجود أبعاد إضافية من مرتبة أكبر بكثير من طول بلانك. ينجم ذلك عن أن قانون نيوتن في التجاذب الكوني القائل بتناسب قوة الجذب بين كتلتين مع مربّع مقلوب المسافة الفاصلة بينهما، سيتغيّر عند وجود الأبعاد الإضافية، ولكن حيث أن الجسيمات الرسل حاملة القوى غير الثقالية محتجزةٌ ضمن الغشائية فأيّ تجربةٍ تتضمّنها لوحدها لن تختبر وجودَ الأبعاد الإضافية. يعني ذلك أن المعطيات التجريبية المتراكمة لدينا في المسرّعات والتي تختبر مسافات من مرتبة 10–15 mmموافقةً للقوى الكهرطيسية والنووية لا تنفي وجود أبعاد إضافية تتحّسس لها القوى الثقالية وحدها. تبلغ المسافة التي نستطيع سبرها عبر قوى الثقالة من مرتبة الملّمتر، وبالتالي يمكن اختبار هذه الفرضيات في المسرّعات، حيث يأمل العلماء إمكانية اختبار شكل قانون نيوتن في التجاذب ضمن مسافات أصغر من هذه المرتبة. قد يسمح ذلك بحلّ مسألة "التراتبية" (Hierarchy) في القوى أي سبب ضعف قوة الثقالة مقارنة مع القوى الأخرى، إذ يسبّب انتشارُها لوحدها ضمن الأبعاد الإضافية شعورَنا بضعفها على الغشائية التي نعيش عليها.

 

 

الشكل4: المشهد الوتري وأرض المستنقعات. كلّما ارتفعت الطاقة نقص عدد النظريّات الفعّالة مع فقدها لقدرتها التنبُّئيّة في مجال فوق البنفسجي، بحيث يؤول المشهد الوتري بمجمله إلى نقطةٍ توافق نظريّة الثقالة الكموميّة.

علاوةً على ذلك، وعند بناء نموذجٍ لفيزياء الجسيمات انطلاقاً من الأوتار يبدأ الفيزيائيّون بتحديد شكل التفاف الأبعاد الإضافيّة في هيئةِ فضاءٍ لكالابي-ياو يختلف عن قرائنه بقيم البارامترات التي تُحدّده وبطريقةِ تراصِّه أو التزازه عند الانتقال من الوتر إلى الجسيم النقطي، وكلٌّ من هذه الأشكال المختلفة يوافق كوناً محتَملاً أو "حالةَ خلاء". يكمن الانتقاد الرئيس للنظريّة في وجود عددٍ كبير من رتبة 10500 من حالات الخلاء هذه، تُشكِّل ما يُدعى ب "المشهد الوتري" (String Landscape) يكفي لاستيعاب أيّ ظاهرة تقريباً عند الطاقات المنخفضة. يعتقد البعض بأن هذا العددَ الكبير من الحلول أمرٌ إيجابي لأنه قد يسمح بتفسيرٍ للقيم المرصودة للثوابت الفيزيائيّة ولا سيّما القيمة الصغيرة للثابت الكوني بحيث أن هذه القيمةَ لا يُحدِّدها مبدأٌ أساسي بل تَوافُقُها مع تطوّرَ حياةٍ ذكيّة، وهذا ما يُدعى بـ"مبدأ الوجود الإنساني" Anthropic principle، بحيث يُنظَر لحالات الخلاء المختلفة على أنها أكوان مختلفة ضمن "متعدّد الأكوان" multiverse ينجم كونُنا المرصود فيه عن استلزامِ وجودِ حياتنا لقيمةٍ صغيرة لثابته الكوني.

دفع الكمّ الهائل من حالات المشهد الوتري إلى تطوير برنامج "أرض المستنقعات" Swampland من قبل كومرون وفا Cumrun Vafa منذ 2005 بهدف إيجاد طريقة أنيقة للتمييز بين نظريّات الحقل الفعّالة المتّسقة مع معطيات الطاقات المنخفضة ولكن اللامتوافقة مع تضمين الثقالة الكموميّة فيها، عن تلك الخاصّة بالمشهد الوتري الموافِق لإمكانيّة تضمين الثقالة الكموميّة، حيث يُعتقَد أن النظريات السابقة تشغل في فضاء البارامترات حيّزاً -يُدعى بأرض المستنقعات- أكبر بكثير من حيِّز نظريّات المشهد الوتري اللاحقة. يبحث العلماء اليوم عن الحجج الرياضيّاتية والمفهوماتيّة التي يمكن بها تمييز الوتريّات ضمن المستنقعات.

خاتمة

نخلص من هذا كله إلى القول إن نظرية الأوتار جميلة رياضياتياً، وقد تحقِّق هدف الفيزيائيين في إيجاد نظرية كل شيء، فعلى سبيل المثال هناك علاقة بين عدد الثقوب في فضاء كالابي-ياو وعدد العائلات، وبالتالي تَحوّل السؤال عن سبب وجود عائلات ثلاث إلى السؤال عن خواص فضاء كالابي-ياو الهندسية التي تقتضي احتواءه على ثلاثة ثقوب. فضاء البارمترات الموافق لهذه الفضاءات كبيرٌ جداً والتساؤل مطروح عن سبب وجود كوننا في النقطة الموافقة له في هذا الفضاء.

 

المراجع:

1. Greene, Brian (2003). The Elegant Universe: Superstrings, Hidden Dimensions, and the Quest for the Ultimate Theory. New York: W.W. Norton & Company. ISBN 978-0-393-05858-1

2. N. Arkani-Hamed, S. Dimopoulos and G. Dvali, “Large Extra Dimensions: A new arena for particle physics”, Physics Today, 2002

3. Vafa, Cumrun (2005). "The String Landscape and the Swampland". arXiv:hep-th/0509212

مفهوم الزَّمان

بين الفلسفة والعلم الحديث

شوقي الدلال

أستاذ فخري في الجامعة الأهلية، البحرين

ملخص

كان الزَّمن دائمًا متجذرًا بعمق في الوعي الإنساني وعنصرًا حيويًا يؤثِّر في وجوده. نتناول في هذا المقالة مفهوم الزَّمن كما يراه الفلاسفة عبر التاريخ ومدى توافق هذا المفهوم مع النظريات العلمية الحديثة. نستعرض في الجزء الأوَّل من هذه المقالة بعض الأسئلة الأساسية حول طبيعة الزَّمن كما تناولها الدَّارسون والمفكِّرون والفلاسفة والعلماء. ومن هذه القضايا؛ ما هو الزَّمن في الواقع، وكيف يرتبط بالعقل، ولماذا يوجد سهم للزَّمن، وما هو نوع الاختلافات الوجودية بين الحاضر والمستقبل؟ وهل الزَّمن موضوعي أم ذاتي؟ وما إذا كانت هناك طبقة أساسية منظمة ينبثق منها الزَّمن.

نتناول في الجزء الثاني من هذه المقالة دراسة مفهوم الزَّمن في النظريات العلمية الحديثة، ثمَّ نستعرض المبادِئ الأساسية لهذه النظريات وبنيتها المنسوجة فيما يتعلق بطبيعة الزَّمن. وفي الجزء الثالث من هذا العمل سيتم تسليط الضَّوء على المفاهيم المؤثرة على طبيعة وتدفق الزَّمن ومدى توافقها مع معرفتنا العلميَّة الحاليَّة حول طبيعته.

 

المقدمة

تعدُّ طبيعة الزَّمن من أكثر المشكلات المحيِّرة التي واجهت الفلاسفة والمفكرين والعلماء في تاريخ البشرية. وعلى الرَّغم من قرون من الأبحاث، فإنَّ مفهوم الزَّمن لا يزال غامضًا ويتطوَّر ببطء ليصبح موضوعًا جذابًا يشمل الوعي والعقل البشري والنَّظريات العلمية والوجود ككل. شهدت بداية القرن العشرين ميلاد نظريتين ثوريتين أثَّرتا بعمق في فهمنا لطبيعة الزَّمن. الأولى هي النَّظريَّة النِّسبيَّة. في هذه النَّظريَّة، الزَّمن نسبي ويعمل بشكل مختلف بالنِّسبة للمراقبين في أطر مرجعية مختلفة. فكرة أخرى تنبثق من هذه النَّظريَّة هي مفهوم الزَّمكان، وهو نموذج رياضي قوي يجمع بين المكان والزَّمان في سلسلة متَّصلة واحدة متشابكة. النَّظريَّة الثَّانية المهمَّة هي نظريَّة ميكانيكا الكم. تقدِّم هذه النَّظريَّة العديد من المفاهيم الجديدة حول الزَّمن وقياسه. أدَّت التَّحقيقات المبكِّرة لفهم سلوك الجسيمات المتشابكة إلى مفهوم جديد تمامًا للزَّمان والمكان. فقد كشفت التَّجارب التي أجريت على الجسيمات المتشابكة عن فكرة جديدة عميقة الجذور تؤثِّر على إدراكنا للكون. فهي تقدِّم مفهوم اللامحليَّة الكميَّة (quantum non-locality)، وهي خاصيَّة للكون مستقلَّة عن وصفنا للطَّبيعة.

بعد عقود من الأبحاث، نجح العلماء في صياغة نظريَّة المجال الموحد من خلال الجمع بين النِّسبيَّة العامَّة وميكانيكا الكم. وقد قدَّمت النَّظريَّة الجديدة، التي يطلق عليها أيضًا اسم "نظريَّة الأوتار الفائقة"، مجالًا فكريًّا جديدًا حول طبيعة الكون الذي نعيش فيه. تقدم هذه النَّظريَّة فكرة الأبعاد الأعلى كبنية تقع في صميم نسيج الكون، وهي تفترض أنَّ هذا النَّسيج يتكوَّن من أحد عشر بعدًا، عشرة للمكان وواحد للزَّمن. ومع ذلك، لا يستطيع الإنسان أن يدرك سوى ثلاثة أبعاد مكانيَّة في حين أنَّ الأبعاد السَّبعة الإضافيَّة مخفيَّة عن حواسنا. كيف يعمل الزَّمن في هذه الأبعاد الإضافية؟ هذه واحدة من أكثر الأفكار الغامضة التي يرنو العلماء لتوضيحها.

1. الزَّمن كمدرسة للفكر

أحد الأسئلة الأكثر إثارة للاهتمام هو: ما هو الزَّمن؟ الإجابة البسيطة على هذا السُّؤال هي أنَّ الزَّمن هو ما تقيسه السَّاعة أو ما يظهر في التَّقويم. لكن السُّؤال التَّالي هو ما الذي نقيسه؟ هل نقيس شيئًا اخترعته حضارتنا أم شيئًا اكتشفناه. انبرى العديد من الفلاسفة للإجابة على هذا السُّؤال. فقد ارتأى بعض الفلاسفة مثل أفلاطون (Plato)، وزينو (Zeno)، وسبينوزا (Spinoza)، وهيغل (Hegel)، وماك تاغارت (McTaggart) أنَّ مفهوم الزَّمن ينطوي على تناقضات، وتوصلوا إلى استنتاج مفاده أنَّ الزَّمن غير موجود. وقد شاركهم في هذه الفكرة أيضًا الفيلسوف المثالي في القرن العشرين فرانسيس هربرت برادلي (F. H. Bradley) الذي رأى أنَّ "الزَّمان، مثل المكان، فمن الواضح أنَّه ليس حقيقيًا، ولكن له مظهر متناقض.... مشكلة التغيير تتحدَّى الحل". ومع ذلك، يتَّفق معظم الفلاسفة على أنَّ الزَّمن موجود. يرى أرسطو (Aristotle) أنَّ "الزَّمن هو مقياس التَّغيير"، وأنَّه ليس منفصلاً بل مستمرًا. جادل رينيه ديكارت (René Decartes) بأنَّ "فكرة الزَّمن تنطوي على الاستمرار أو إعادة الخلق". في القرن السَّابع عشر، ارتأى الفيزيائي إسحاق بارو (Isaac Barrow) أنَّ الزَّمن شيء موجود بشكل مستقل عن الحركة أو التَّغيير. من جهة أخرى ارتأى نيوتن أنَّ الزَّمان والمكان عبارة عن حاوية كبيرة بلا حدود تضمُّ جميع الأحداث، والحاوية موجودة مع الأحداث أو بدونها. من ناحية أخرى، يرى جوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz) أنَّ الزَّمن ليس كيانًا موجودًا بشكل مستقل عن الأحداث الفعلية. وفي القرن الثامن عشر، ارتأى إيمانويل كانت (Immanuel Kant) أنَّ الزَّمان والمكان هما أشكال يُسقطها العقل على الأشياء الخارجيَّة في حد ذاتها.

2. الزَّمن والعقل

يناقش الفلاسفة ما إذا كانوا سيتبنون نظريَّة واقعيَّة أو مناهضة للواقعيَّة حول الزَّمن، وكيف يرتبط الزَّمن بالعقل. ولتحقيق هذه الغاية، ينقسم الزَّمن إلى ثلاث فئات. الزَّمن المادِّي، وهو الذي صممت السَّاعات لقياسه. وعلى النَّقيض من ذلك، يتمُّ تحديد الزَّمن الحيوي (biological time) من خلال إيقاع السَّاعة الحيويَّة للكائن الحي، والذي يتزامن عادةً مع نمط ضوء الشَّمس والظَّلام. من جهة أخرى، يمكن فهم الزَّمن النَّفسي (psychological time) على أنَّه الوعي بالزَّمن المادِّي. ويزعم بعض الفلاسفة أنَّ الزَّمن النَّفسي يتمُّ تجاوزه تمامًا في الحالة العقليَّة التي تُسمَّى النِّيرفانا (nirvana) حيث يتباطأ الزَّمن حتى يتوقف تمامًا.

إحدى المشاكل الرَّئيسة التي تواجه الفلاسفة هي شرح طبيعة تجربتنا الزَّمنيَّة وأصلها. يواصل الفلاسفة مناقشة كيفية ارتباط أذهاننا بوعينا بالظَّواهر الزَّمنيَّة. نستخدم بصيرتنا لتخيُّل الزَّمن، ويحدث ذلك عندما نختبر اختلافًا بين إدراكنا الحالي وبين ذكرياتنا الحاليَّة كما نستذكرها من الماضي. عادةً ما تفسر أذهاننا الفرق بين الاثنين كدليل على أنَّ العالم الذي نختبره يتغيَّر عبر الزَّمن، حيث ترى بصيرتنا سلسلة متتالية من الأحداث. يتعامل العلم المعرفي مع منشأ الآلية العصبيَّة المسؤولة عن وعينا بالزَّمن، وعن وعينا بالتَّغيير، وعن تدفق الزَّمن بالتَّرتيب الصَّحيح للتعاقب الزَّمني.

من المسائل المهمَّة هي ما إذا كان الزَّمن ظاهرة ذاتيَّة أو موضوعيَّة. يرى أطباء الأعصاب وعلماء النَّفس أنَّ إحساس أي كائن حي بالزَّمن هو أمرٌ شخصي. ومع ذلك، هل يعني هذا أنَّ الزَّمن المحسوس هو أيضًا ذاتي، وأنَّه ظاهرة تعتمد على العقل؟ لا يوجد إجماع بين الفلاسفة في الإجابة على هذا السُّؤال. بدون العقل في العالم، لن يكون هناك شيء مفاجئ أو جذاب أو مثير. يعتقد معظم الفلاسفة أنَّ مفهوم الزَّمن الذي يسمح لنا بفهم التَّغيير والاستمراريَّة وتعاقب الأحداث هو مؤشِّر على أنَّ الزَّمن حقيقي من النَّاحية الموضوعيَّة. نحن نميل إلى فكرة أنَّ الزَّمن موضوعي لأنَّ كوننا لديه العديد من العمليات الدَّورية التي تحمل علاقات زمنية متَّسقة.

3. ماك تاغارت وانتفاء الزَّمن

undefined

ماك تاغارت

كان الزَّمن دائمًا موضع جدل بين الفلاسفة. في عام 1908، جادل ماك تاغارت بأنَّ الزَّمن غير واقعي لأنَّ اللغة التي نستخدمها لوصفه تكون إمَّا متناقضة، أو دائريَّة، أو غير كافية. يحدِّد ماك تاغارت نمطين مختلفين من الزَّمن يسمِّيهما السِّلسلة A والسِّلسلة B. تحدِّد السِّلسلة A الموقع في الأزمنة مثل الماضي والحاضر والمستقبل، ويجادل بأنَّ هذا التَّسلسل متناقض، حيث إنَّ كلًا من هذه الخصائص تستبعد الخاصيتين الأخريين، فتحديد زمن وقوع الحدث على أنَّه حصل في الماضي، أو الحاضر أو المستقبل، هو أمرٌ دائري. علاوة على ذلك، فهو يرى أنَّ السِّلسلة A غير متماسكة لأنَّ كل حدث يقع سيكون في زمن ما هو المستقبل، وفي وقت آخر سيكون الحاضر، وفي وقت ثالث سيكون الماضي. وبما أنَّ هذه الخصائص الزَّمنية متنافية، فإنَّ مفهوم الزَّمن يولد اللاعقلانية والتَّناقض. تصف السِّلسلة B تسلسل المواقع التي تمتدُّ من الزَّمن السَّابق إلى ما بعده. هذه سلسلة زمنية لأنَّها تجسِّد اتجاه التَّغيير. يرى ماك تاغارت أنَّ السَّلسلة B وحدها غير كافية لوجود الزَّمن لأنَّ العلاقات السَّابقة واللاحقة لا تتغيَّر أبدًا (على سبيل المثال، عام 2005 يكون دائمًا سابقًا للعام 2015). على الرَّغم من الحجج التي قدمها ماك تاغارت، فإنَّ العديد من الفلاسفة مقتنع بضرورة وجود الزَّمن. ومع ذلك، لا يوجد اتفاق بشأن ما هو الزَّمن فعلًا.

4. الاختزاليَّة والأفلاطونيَّة

إنَّ مسألة ما إذا كان يمكن أن يكون هناك زمن دون وجود سلسلة من الأحداث تؤدِّي عادةً إلى فكرة ما إذا كان الزَّمن موجودًا بشكل مستقل عن الأحداث التي تحدث خلاله. أي أنَّه إذا تصوَّر المرء فترة من الزَّمن دون تغيير (لا شيء يحدث)، فيترتَّب على هذه الفكرة وجود مطلق للزَّمن دون أي حدث يملؤه. ومن ناحية أخرى، إذا تصوَّرنا فترة زمنية دون تتابع للأحداث خلالها، ففي هذه الحالة يوجد الزَّمن فقط إذا كانت هناك أحداث لملء هذه الفترة. وقد جادل أرسطو (Aristotle) ولايبنيز (Leibniz) وآخرون بأنَّ الزَّمن موجود فقط إذا وقعت الأحداث بشكلٍ متتالٍ. يُشار إلى هذه المدرسة الفكريَّة عادةً باسم "الاختزاليَّة فيما يتعلَّق بالزَّمن" أو "العقلانيَّة فيما يتعلَّق بالزَّمن". ووفقا لهذه المدرسة، يمكن بطريقة أو بأخرى اختزال جميع التَّعبيرات المتعلِّقة بالزَّمن إلى تعبيرات تتعلَّق بالعلاقات الزَّمنية بين الأشياء والأحداث. وبحسب الاختزالية، فإنَّ فكرة الزَّمن دون تغيير تبقى غير متماسكة، ولا يمكننا تصوُّر فترة من الزَّمن الفارغ من الأحداث، وحتى لو كانت موجودة فلا توجد طريقة لمعرفة وجودها.

من ناحية أخرى، قدَّم أفلاطون ونيوتن وآخرون وجهة نظر معارضة يشار إليها عادة باسم "الأفلاطونيَّة فيما يتعلَّق بالزَّمن" أو باسم "الجوهريَّه فيما يتعلَّق بالزَّمن". ومن وجهة النَّظر هذه، فإنَّ الزَّمن يشبه الحاوية التي يمكن وضع الأشياء والأحداث فيها؛ ومع ذلك، فإنَّ الحاوية موجودة بشكل مستقل عمَّا يتمُّ وضعه فيها. وفي القرن السَّابع عشر، أيَّد الفيزيائي الإنجليزي إسحاق بارو (Isaac Barrow) وجهة النَّظر الأفلاطونيَّة حول الزَّمن، واعتبره شيئًا موجودًا بشكل مستقل عن الحركة أو التَّغيير. من ناحية أخرى، جادل جوتفريد لايبنتز (Gottfried Leibniz) بأنَّ الزَّمن ليس كيانًا موجودًا بشكل مستقل عن تدفُّق الأحداث الفعليَّة. وفي القرن الثامن عشر، اعتبر إيمانويل كانت المكان والزَّمان كأشكال يُسقطها العقل على الأشياء الخارجيَّة نفسها، وأنَّ عقلنا يبني إدراكنا بحيث يكون للفضاء دائمًا هندسة إقليديَّة.

انزعج الفلاسفة عبر التَّاريخ من التَّناقض النَّاشئ عن مفهوم الزَّمن. فقد قدم سبينوزا وزينو وهيغل وأفلاطون وماك تاغارت إجابة جذرية للسؤال: ما هو الزَّمن، من خلال الادِّعاء بأنَّ الزَّمن غير موجود. تمَّ التَّعبير عن هذه الفكرة من قبل فيلسوف القرن العشرين فرانسيس هربرت برادلي: " الزَّمن شأنه شأن المكان، فهو ليس حقيقيًّا، بل له مظهر متناقض، ومشكلة التَّغيير تستعصي على الحل". شاركه جودل (Gödel) في هذه الفكرة حيث بيَّن أنَّ معادلات آينشتاين في النِّسبيَّة العامَّة تسمح بعوالم ممكنة فيزيائيًا تُنتهك فيها السَّببيَّة وتسمح بالسَّفر عبر الزَّمن.

5. العلم والزَّمن

تستحضر العديد من النَّظريات العلمية الزَّمن دون أن يكون عنصرًا أساسًا مؤثرًا في بنيتها. تقع نظريَّة الانفجار الأعظم والكون التَّضخُّمي في قلب فهمنا للظَّواهر الكونيَّة. ووفقًا لهذه النَّظريَّة، بدأ الكون من مفرديَّة صغيرة للغاية. يؤدِّي التَّمدُّد إلى التَّبريد، وبالتَّالي السَّماح لجزيئات المواد بالتكثُّف لتكوِّن النُّجوم والمجرَّات. تحدَّى نيوتن- سميث (Newton-Smith) الحجَّة القائلة بأنَّ الزَّمن له ماضٍ محدود، وبنوا حجَّتهم على افتراض أنَّ الأحداث العيانيَّة لها أصول سببيَّة. ومن أجل دحض حجَّتهم، يشير الفلاسفة إلى أنَّ الانفجار الأعظم هو حدث مجهري، وأهميَّة ذلك أنَّه إذا كانت النَّظريَّة الكونيَّة المعتمدة تشير إلى وجود حدث أوَّل، فإنَّ هذا الحدث يعدُّ استثناءً لأي مبدأ تحكمه قوانين وهميَّة ويفترض أنَّ لكل حدث سببًا سابق.

سؤال مهم آخر هو ما إذا كان الزَّمن سمة أساسيَّة للطَّبيعة، أم أنَّه ينبثق من سمات أساسيَّة خالدة. قدم مينكوفسكي (Minkowski) في عام 1908 فكرة أنَّ الزَّمكان أكثر أساسيَّة من الزَّمن، وهذه الحجَّة مقبولة بشكل عام من قبل المجتمع العلمي. ومع ذلك، هل الزَّمكان نفسه أساسي؟ تزعم بعض النَّظريات الحديثة أنَّ الزَّمكان مكوَّنٌ من بعض الرَّكائز الدَّقيقة الأساسيَّة على مستوى طول بلانك (Planck length)، وذلك على الرَّغم من عدم وجود مفهوم مُتَّفق عليه حول ماهية الرَّكيزة. روَّج بعض الفيزيائيين فكرة تذهب إلى أنَّ تدفُّق المعلومات في نظريَّة ميكانيكا الكم هي المرشح الرَّئيس. في عام 1905، طرح الفيزيائي الفرنسي هنري بوانكاريه (Henri Poincaré) فكرة تقليديَّة مفادها أنَّ الزَّمن ليس سمة من سمات الواقع، بل هو عنصر اخترعناه ليناسب راحتنا. صوَّر فلاسفة العلم الآخرون الزَّمن بشكل موضوعي، معترضين بذلك على الصُّورة التَّقليديَّة للزَّمن.

5.1. زمن بلانك والكرونون

افترض ماكس بلانك وحدة زمنية تعرف باسم زمن بلانك، وهو يساوي ثانية. الزَّمن في ميكانيكا الكم والنِّسبيَّة العامَّة هو كميَّة مستمرَّة. ومع ذلك، فقد اقترح العديد من علماء الفيزياء أنَّ النَّموذج المنفصل أو المتقطِّع للزَّمن (discrete time) قد ينجح عند الجمع بين النِّسبيَّة العامَّة وميكانيكا الكم لصياغة نظريَّة الجاذبيَّة الكميَّة. تمَّ اقتراح الطَّيف المنفصل أو المتقطِّع للزَّمن لأوَّل مرَّة بواسطة تشين نينغ يانغ (Chen Ning Yang) في عام 1947. في هذا النَّموذج، أظهر يانغ أنَّ هذا المفهوم يتوافق مع النِّسبيَّة الخاصَّة. في عام 1950، اقترح مارجينو (H. Margenau) وحدة زمنية تسمَّى كرونون ويتمُّ تعريفها على أنَّها الزَّمن الذي ينتقل فيه الضَّوء عبر نصف قطر الإلكترون. يتمُّ تحديد قيمة الكرونون بشكل خاص من خلال الشُّروط الحديَّة للمنظومة، وهو يعتمد على كتلة الجسيم وشحنته. وقد زُعم أنَّ الكرونون له تبعات مهمَّة على ميكانيكا الكم، مثل ما إذا كانت الجسيمات المتساقطة الحرَّة تصدر إشعاعًا أم لا. وبالتَّالي، فإنَّ للجسيمات المختلفة زمنٌ محدَّد مختلف. هذه الفكرة مصطنعة تمامًا، وبالتَّالي لن تؤثر على طبيعة الزَّمن نفسه. والخلاصة هي أنَّ فكرة الوحدة المنفصلة من الزَّمن تظلُّ خارج حدود النَّظريات العلميَّة الرَّاسخة.

 

5.2. سهم الزَّمن

تاريخ الكون وسهم الزَّمان. credit: NASA / GSFC

يظلُّ تدفُّق الزَّمن من الماضي نحو المستقبل أحد أكثر المشكلات غموضًا في النَّظريات العلميَّة الحاليَّة. على المستوى دون الذَّري، لا تفرق ميكانيكا الكم والميكانيكا التقليديَّة بين الماضي والمستقبل، وعندما تتفاعل الجسيمات وتنتج جسيمات أخرى، عندها يمكن أن يحدث هذا التَّفاعل أيضًا بترتيب عكسي. لذلك، على هذا المستوى لا توجد طريقة للتَّمييز بين الماضي والمستقبل من خلال النَّظر فقط إلى الجسيمات المتفاعلة أو النَّاتجة عن التَّفاعل. ومع ذلك، في العالم الكبير الذي ندركه بحواسنا، فإنَّ الفرق بين الماضي والمستقبل موجود دائمًا في أذهاننا، وفي هذا العالم يمكن اختبار قانون السَّببيَّة في جميع الأحداث التي يمكن إدراكها في حياتنا اليوميَّة. وهذه الحقيقة تعني أنَّ هناك سهمًا للزَّمن يمتدُّ من الماضي نحو المستقبل. يعتقد بعض العلماء والفلاسفة أنَّ إدراكنا لمرور الزَّمن هو مجرَّد وهم، وأنَّ الماضي والمستقبل موجودان دائمًا ككيانين منفصلين. ومع ذلك، فإنَّ إحدى الأفكار الأساس التي تشكل فهمنا للكون الذي ندركه هي القانون الثالث للحراكيَّات الحراريَّة (thermodynamics)، المعروف أيضًا باسم قانون زيادة القصور الحراري (entropy). ينصُّ هذا القانون على أنَّه في المنظومة المغلقة، يوجد دائمًا انتقال من حالة يسودها النِّظام إلى حالة أقل نظامًا ممَّا يؤدِّي إلى زيادة الاضطراب، أو ما يسمَّى بزيادة القصور الحراري للمنظومة مع مرور الزَّمن. من وجهة نظر أخرى، فإنَّ التَّمييز بين الماضي والمستقبل في ميكانيكا الكم ليس واضحًا. على سبيل المثال، تسمح مخططات فاينمان بالتفاعلات في كلا الاتجاهين. بالإضافة إلى ذلك، يبدو الزَّمن متماثلًا تمامًا في كل من معادلات ماكسويل التي تصف خصائص الموجات الكهرومغناطيسية وكذلك في معادلة شرودنجر التي تصف الحالة الكميَّة للمنظومة. فلا فرق إذن بين الموجات التي تتحرَّك من الماضي نحو المستقبل أو العكس.

 

5.3 الزَّمن والزَّمكان في النِّسبيَّة الخاصَّة

في عام 1905، قدَّم آينشتاين في نظريته النِّسبيَّة الخاصَّة فكرة ثوريَّة جديدة عن الزَّمن. في هذه النَّظريَّة، يمرُّ الزَّمن بشكل مختلف في الأطر المرجعية التي تتحرَّك بالنِّسبة لبعضها البعض. يعتمد الفارق الزَّمني كما يسجِّله المراقبون المرتبطون بهذه الأطر بشكل أساس على سرعاتهم النِّسبيَّة. وقد أدَّى هذا الاكتشاف إلى الفكرة المتميِّزة المعروفة باسم "مفارقة التَّوأم". تتضمَّن المفارقة سفر أحد التَّوأمين من الأرض بسرعات مماثلة لسرعة الضَّوء. وعند عودته إلى الأرض، يكتشف أنَّ توأمه قد شهد عملية شيخوخة حقيقيَّة، في حين أنَّه هو نفسه لا يزال صغيرًا نسبيًّا. وقد أثارت هذه الفكرة جدلاً حادًا بين العلماء، وتمَّ اختبارها تجريبيًّا من خلال ابتكار تجربة ينبعث فيها ميزون π ويتم تسجيل الزِّيادة في عمره بعد انحرافه بواسطة مغناطيس ممَّا يجبره على العودة إلى موقعه الأوَّل. وقد وجد أنَّ الزِّيادة في العمر المسجلة تتوافق بدقَّة مع تنبؤات معادلات النِّسبيَّة الخاصَّة. تظل نسبية الزَّمن إحدى الرَّكائز الأساس في النَّظريات العلميَّة الحديثة.

ارتبط الزَّمن تاريخيًّا ارتباطًا وثيقًا بالمكان، حيث اندمج الاثنان معًا في الزَّمكان في النِّسبيَّة الخاصَّة والنِّسبيَّة العامَّة لآينشتاين. وبحسب هذه النَّظريات، يعتمد مفهوم الزَّمن على الإطار المرجعي المكاني للرَّاصد، كما أنَّ الإدراك البشري، وكذلك القياس بواسطة أدوات مثل السَّاعات، يختلف بالنِّسبة للرَّاصدين في الحركة النِّسبيَّة. فعلى سبيل المثال، إذا كانت سفينة فضاء تحمل ساعة وتنطلق عبر الفضاء بسرعة (قريبة جدًا) من سرعة الضَّوء، فإنَّ طاقمها لا يلاحظ تغيُّرًا في سرعة الزَّمن على متن سفينتهم لأنَّ كل شيء يتحرَّك بالسُّرعة نفسها. ومع ذلك، بالنِّسبة لمراقب ثابت يراقب سفينة الفضاء وهي تحلق بالقرب منها، تبدو سفينة الفضاء مسطَّحة في الاتجاه الذي تسير فيه، وتبدو السَّاعة الموجودة على متن سفينة الفضاء وكأنَّها تتحرَّك ببطء شديد.

5.4. الزَّمن والتشابك الكمي

undefined

ПОДОЛЬСКИЙ Борис (Podolsky Boris) | Объединение учителей Санкт-Петербурга

ناثان روزن

بوريس بودولسكي

ألبرت آينشتاين

في عام 1935، وصف ألبرت آينشتاين (Albert Einstein)، وبوريس بودولسكي (Boris Podolsky)، وناثان روزن (Nathan Rosen) ما أصبح يعرف باسم مفارقة EPR، وهي ظاهرة فيزيائية تنطوي على تفاعل أزواج أو مجموعة من الجسيمات ممَّا يؤدِّي إلى خلق حالة كميَّة لكل جسيم لا يمكن وصفها بشكل مستقل، بل قد تشمل النِّظام الكمي ككل. وُجد أنَّ القياسات الفيزيائيَّة لخصائص الجسيمات المتشابكة مثل الدَّومة (spin) والزَّخم (momentum) والاستقطاب (polarization) والموقع (position) مرتبطة بشكل دقيق. فعلى سبيل المثال، عندما يتمُّ تخليق زوج مكوَّنٍ من جسيمين (فوتونين على سبيل المثال) مع دومة إجمالية قدرها صفر، ووُجد أنَّ أحد الجسيمين من الزَّوج له دومة "للأعلى"، فيكون للجسيم الآخر من الزَّوج دومة "للأسفل"، بحيث تظلُّ القيمة الإجماليَّة للدَّومة مساوية صفرًا.

توضِّح هذه التَّجربة أنَّ أحد الجسيمات المتشابكة يعرف نتيجة القياس الذي تمَّ إجراؤه على الجسيم الآخر الذي يشكل الزَّوج. والمثير للدهشة أنَّ هذا يحدث على الرَّغم من عدم وجود وسيلة تقليديَّة لتوصيل المعلومات بين الجسيمين. علاوة على ذلك، في وقت إجراء القياس، قد يكون الجسيمان مفصولين بمسافات كبيرة بشكل كبير، وقد يحدث الاتصال على الفور تقريبًا بسرعة تتجاوز إلى حد كبير سرعة الضَّوء. اعتبر آينشتاين وزملاؤه أنَّ مثل هذه النَّتيجة مستحيلة، وأشار إليها آينشتاين بـ:"الحدث الشَّبحي عن بعد" (spooky action at a distance). أصبح التَّشابك الكمِّي اليوم مجالًا جذابًا للبحث، وتمَّ اختباره تجريبيًّا باستخدام الفوتونات، والإلكترونات، والجزيئات الكبيرة، وحتى قطع صغيرة من الماس. أثار هذا النَّقل الفوري للمعلومات بين أزواج من الجسيمات المتشابكة تدفقًا من الأفكار العلميَّة والفلسفيَّة فيما يتعلَّق بمفهوم الزَّمن. تمَّ استحضار فكرة اللامحليَّة (non-locality) بشكل مكثف لشرح سلوك الجسيمات المتشابكة. ومع ذلك، فإنَّ مفهوم اللامحليَّة لا يزال غامضًا ويتطلَّب تحقيقًا شاملًا لتوضيح طبيعته.

5.5 النَّقل الآني (Teleportation)

لقد أظهرت التَّجارب التي أجريت في العقدين الأخيرين شكلاً من أشكال الاتصال غير المحلي المعروف باسم النَّقل الآني. ولم تنشأ هذه الظَّاهرة بين الجسيمات الفردية فحسب، بل بين الذَّرات بأكملها أيضًا. يعدُّ تحقيق النَّقل الآني على الكائنات الكبيرة أو البشر أبعد بكثير من نطاق الاحتمالات الحالي. إلا أنَّ العملية نفسها تعترف بها النَّظريات العلميَّة وتتطلَّب طفرة تقنيَّة لنقلها إلى عالم الواقع. من المؤكد أن تجارب النَّقل الآني ستفتح آفاقًا جديدة تؤثِّر على البشرية في مسيرتها نحو المستقبل.

الخلاصة

يبقى مفهوم الزَّمن إحدى القضايا المحيِّرة التي حاول الدَّارسون والعلماء والفلاسفة إيجاد حل لها. فمن من المسائل العلميَّة والفلسفيَّة المتشابكة ارتباط مفهوم الزَّمن بالعقل، ولماذا يوجد سهم للزَّمن، وما هو نوع الاختلافات الوجوديَّة بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهل الزَّمن موضوعي أو ذاتي. هذه مجموعة من الأسئلة التي حاولنا الإجابة عليها من وجهة نظر العلم الحديث ومن وجهة نظر الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ.

المراجع

 

1. Mates, Benson (1989). The Philosophy of Leibniz: Metaphysics and Language. Oxford University Press. ISBN 978-0-19-505946-5.

 

2. Shawqi Al Dallal, The Nature of Time in Modern Scientific Theories, An Islamic Perspective, Proceeding of the International conference on time in Islamic civilization, Turkey,10 October 2015..

 

 

 

3. Michael Dummett, A Defense of McTaggart's Proof of the Unreality of Time, The Philosophical Review, Vol. 69, No. 4. (Oct., 1960), pp. 497-504.

4. Gödel, Kurt (July 1, 1949). "An Example of a New Type of Cosmological Solutions of Einstein's Field Equations of Gravitation"Rev. Mod. Phys. 21 (447): 447–450.

5. W. H. Newton-Smith, The Structure of Time, Routledge (2020), ISBN 9781138394063.

 

6. C. N. Yang. On Quantized Space-Time. Phys. Rev. 72, 874 (1947).

7. Margenau, Henry (1950)The Nature of Physical Reality. McGraw-Hill.

 

 


 

خبر علمي:

 

أنشتاين والذكاء الاصطناعي

قام الباحثون فى مركز أبحاث جوليتش بألمانيا بتطوير ذكاء اصطناعي قادر على صياغة نظريات فيزيائية جديدة من خلال تحديد الأنماط والعيّنات المُميِّزة في مجموعات البيانات والمعطيات المعقدة، ومن ثمّ صياغتُها ضمن نظريّات فيزيائيّة تحقّق بعض الشروط والقيود، على غرار إنجازات شخصيات تاريخية مثل إسحاق نيوتن وألبرت أينشتاين. يقوم الذكاء الاصطناعي هنا، والمنبثق عن مبادرة "فيزياء الذكاء الاصطناعي "Physics and AI" ، باستخدام شبكة عصبونيّة تتعلّم صياغةَ دالّةٍ تربط السلوكَ المعقَّد المرصودَ بمنظومة أبسط، أي تهدف إلى تبسيط التفاعلات والتآثرات المُعقّدة التي نلاحظها قائمةً بين مختلف مكوِّنات المنظومة، ثم باستخدام المنظومة الأبسط تقوم بصياغة دالّة عكسيّة للعودة منها إلى المُعقَّد عبر بناء التآثرات قطعةً فقطعة انطلاقًا من بارامترات الشبكة، ويتمّ أثناء ذلك صياغة نظريات قابلة للفهم تتوافق مع أسس العلوم الفيزيائية، ممّا يمثل خروجًا عن الأساليب التقليدية. مرجع

 

 

 

طاقة الاندماج النووي – مصدر الطاقة المستدام والنهائي

عمرو بدر1، محمد صوان2، ليلي الجبّالي2

 

1مهندس تكنولوجيا الاندماج النووي في مشروع (ايتر) الدولي ـــــــ فرنسا.

2أستاذ أبحاث فخري متميز في قسم الهندسة النووية وفيزياء الهندسة في جامعة ويسكونسن-

ماديسون في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

تمهيد

عند سؤال الفيزيائي الشهير ستيفن هوكينج عن تسمية إنجاز علمي واحد يتمنى أن يعيش ليراه خلال حياته كانت الإجابة: "أريد مشاهدة طاقة الاندماج النووي وقد أصبحت مصدرا متجدّدًا ونظيفًا للطاقة" [1]. وقبل هوكنج بعقود، قدّم الفلكي البريطاني المعروف آرثر إدينغنتون محاضرة صرّح فيها بالقول إن "النجوم تستمدّ طاقتها من خزّان هائل من الطاقة .... سيكون غيرَ قابل للنضوب لو أننا نعرف فقط كيفية استخلاصه" [2], وكان يشير إلى الاندماج النووي. وبعد عقود من البحث عن "خزان الطاقة الهائل" هذا في عشرات المختبرات الدولية، تمّ الشروع في بناء أكبر مفاعل اندماج نووي في العالم يُعرَف بـ (ITER) عام 2006. وفي عام 2022، أطلقت الإدارة الأميركية رؤيتها العشرية لإنتاج طاقة الاندماج تجاريًّا ومثلها حكومات أخرى. وبالتوازي مع القطّاع العام، يوجد الآن ما يزيد عن 40 شركة اندماج تجارية خاصة حول العالم يستثمر بها أقطاب الأعمال المشهورون وبرؤوس أموال تصل الى مليارات الدولارات. هذا الحراك غير المسبوق من القطاعَين العام والخاص للوصول إلى طاقة الاندماج لم يأتِ من فراغ، لأن توليد الطاقة من تفاعلات الاندماج بشكل تجاري يُعدّ نقلة حضارية نوعية ذات تبعات عريضة جدًّا، فضلاً عن كونها من أهم وأعظم الإنجازات العلمية والتقنية التي سيسجلها الإنسان إن قُدِّر لها النجاح.

الطاقة والتنمية

الطاقة عنصر بالغ الأهمية للتنمية البشرية وأداة محورية لمواجهة تحديات الاستدامة في الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. مع نمو سكان العالم والزيادة السريعة في احتياجات الطاقة لمواكبة متطلبات التنمية البشرية، يصبح لزاماً ضمان مصدر طاقة مستداماً ونظيفاً بيئياً. يمثل الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز الطبيعي) ما نسبته 82% من الاستهلاك العالمي الأولي للطاقة و 60%من إنتاج الكهرباء، وتتوزع النسّب المتبقية بين مصادر الطاقة النووية والكهرومائية والطاقة المتجددة (الكتلة الحيوية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية) كما هو موضح في الشكل (1). إن مساهمة الوقود الأحفوري أعلى بكثير في الدول العربية. مثلاً، يسهم الوقود الأحفوري بنسبة 89% من إنتاج الكهرباء في مصر. في المقابل، يُعَدّ احتراق الوقود الأحفوري مسؤولاً عن انبعاثات كبيرة من مُلوِّثات الهواء المتضّمنة انبعاثات الغازات الدفيئة والمؤدية بدورها إلى زيادة ظاهرة الاحتباس الحراري. وتشمل الآثار السلبية زيادة المخاطر على السواحل والنظم البيئية وموارد المياه العذبة وصحة الإنسان. ولغاية تقليل المخاطر المتعلقة بالتغير المناخي والحفاظ على البيئة للأجيال القادمة، فإنه من الضروري الانتقال إلى خيارات طاقة منخفضة الكربون. وقد وافقت نحو 200 دولة مشاركة في مؤتمر المناخ (COP28) الذي عُقِد في مدينة دبي خلال شهر ديسمبر 2023 على ميثاق عالمي يدعو للانتقال بعيداً عن الوقود الأحفوري والتوقف كلياً عن إضافة ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي بحلول منتصف القرن الحالي. كما يدعو الميثاق الدولي إلى مضاعفة كمية الطاقة المتجددة إلى ثلاثة أضعاف بحلول 2030. تُعَدّ الطاقة النووية إلى حد بعيد أكبر مصدر خالٍ من الانبعاثات الكربونية لإمدادات مستمرة وموثوقة لتوليد الكهرباء. وقد أصدرت 22 دولة خلال مؤتمر المناخ (COP28) إعلاناً مشتركاً لمضاعفة القدرة النووية على مستوى العالم إلى ثلاثة أضعاف بحلول 2050 وذلك إدراكاً للدور المحوري الذي تمثله الطاقة النووية في تحقيق صافي صفري من انبعاثات الغازات الدفيئة بحلول 2050.

 

شكل (1). الإنتاج العالمي للكهرباء حسب المصدر [3]

طاقة الاندماج النووي

على النقيض من الانشطار النووي الحاصل في المفاعلات النووية الحالية، يحدث الاندماج النووي من اندماج نواتين ذريتين خفيفتين ممّا يطلق كمية هائلة من الطاقة. وكمورد وقود غير ناضب تقريباً، تلعب طاقة الاندماج النووي دوراً رئيساً في تلبية الطلب العالمي على الطاقة في المدى الطويل. يُعتبر تفاعل اندماج الديوتيريوم ــــــ التريتيوم (D-T) التفاعل النووي الواعد لتوليد القدرة من الاندماج النووي، كما هو مُبيَّن في الشكل (2)، حيث أنّ كلاً من الديوتيريوم والتريتيوم يُعَدّ من نظائر ذرّة الهيدروجين. يتسبب اختلاف الكتل بين الديويتيريوم والتريتيوم من جهة وبين الهيليوم-4والنيوترون من جهة أخرى بانبعاث الطاقة الكبيرة من تفاعل الاندماج. إضافة لذلك، لتحقيق هذا التفاعل النووي، يجب أنّ تكون درجة حرارة نواتي الديوتيريوم والتريتيوم أعلى من 10 كيلو إلكترون فولت أو 100.000.000 درجة مئوية (1 إلكترون فولت= 11.300 درجة مئوية). عند مستويات طاقة كهذه، تكون هذه الذرات متأيّنة بشكل كامل لتشكّل حالة البلازما، وهي الحالة الرابعة للمادة. الديوتيريوم هو ذرّة موجودة بوفرة في الطبيعة ويمكن استخلاصها من مياه البحر بتكلفة بسيطة. يتولّد التريتيوم في محطة طاقة الاندماج بواسطة امتصاص النيوترونات المنبعثة من البلازما أثناء التفاعل في ذرات الليثيوم الموجودة داخل بطانيات خاصة حاملة لليثيوم في حجرة المفاعل.

الشكل (2). تفاعل اندماج الديوتيريوم ــــــ التريتيوم (D-T) وانطلاق الطاقة بسبب الاختلاف في الكتلة بين الديوتيريوم والتريتيوم من جهة، والنيوترون والهيليوم4 من جهة أخرى. credit: Mohammed Sawan]]

ميزات طاقة الاندماج

تشير الدراسات إلى أن الكميات المتوافرة الآن والتي يمكن استخلاصها تجارياً من الديتريوم كافية لسد الاحتياجات العالمية من الطاقة لآلاف السنين. التريتيوم ـــــــ الوقود الآخر المستعمل في التفاعل ـــــــ هو عنصر مشع ذو عمر نصف قصير يساوي 12 عام، لذلك هو نادر الوجود في الطبيعة، لكن يمكن توليده بواسطة تفاعلات داخل حجرة المفاعل بين النيوترونات الصادرة من التفاعل الاندماجي وجدار المفاعل المكوّن من مواد تحتوي عنصر الليثيوم، حيث يتفاعل النيوترون مع الليثيوم لتوليد التريتيوم. في جميع الأحوال، إن كميات الوقود الاندماجي المتوفرة تكفي لسدّ احتياجات الاستهلاك العالمي لعدة قرون قادمة على أقل تقدير. يمكن للاندماج النووي توليد أربعة أضعاف الطاقة لكل كيلوجرام من الوقود مقارنة مع تفاعلات الانشطار النووي (الحاصلة في المفاعلات النووية الحالية)، وأكثر من أربعة ملايين ضعف الطاقة الناجمة من حرق كيلوجرام واحد من الوقود الأحفوري، كما أنه لا يطلق غازات ضارة بالبيئة، ويُعتبر تفاعلاً آمناً لا يمكن خروجه عن السيطرة. في المحصلة، يُعتبر الاندماجُ مصدرَ طاقة آمنًا، نظيفًا ومتجدّدًا، ويمكن الاعتماد عليه كبديل للوقود الأحفوري في حال وصلت التقنية للنضج اللازم. من الجدير ذكرُه إطلاقُ ما يصل إلى 35 دولة في مؤتمر المناخ (COP28)، الذي عُقد في مدينة دبي، خطةَ مشاركة دولية لتعزيز الاندماج النووي، مُشيرةً إلى أنّ هذه التكنولوجيا خاليةً الانبعاثات يمكن أن تكون أداةً حيوية في مكافحة التغير المناخي.

برامج الاندماج العالمية: نظرة إلى المشهد الحالي

بدأت الأبحاث العلنية حول الاندماج النووي في خمسينيات القرن الماضي بعد مؤتمر الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية الذي عقد في سويسرا عام 1958 والذي عُرِف بالمؤتمر "العملاق" لكثرة أعداد المشاركين، حتى إنّ غرف الفنادق في مدينة جنيف امتلأت بالكامل تقريباً، فاضطر بعض المشاركين للسكن في مدن أبعد ـــــــ بعضها في فرنسا ـــــــ لمتابعة وقائع المؤتمر الكبير [4].

في الوقت الحاضر، هناك المئات من تجارب الاندماج على مستوى العالم والتي تتطرق إلى كافة مبادئ الاندماج المغناطيسي [5,6,7]. يوجد اليوم تعاون دولي مثير للإعجاب في كافة مجالات البحث، كما أن كمية المعرفة المتراكمة والضخمة أدت إلى الثروة الحالية في علوم الاندماج النووي. بعد ما يزيد عن الـ 70عامًا من البحث والتطوير في علوم الاندماج، يتزايد الاهتمام العالمي اليوم حولها بشكل كبير، بجانب الدعم غير المسبوق لها من الحكومات والقطاع الخاص. مثلاً، سيصمّم القطاع الخاص محطات اندماجية ريادية يمكن أن تصبح قيد التشغيل في ثلاثينيات القرن الحالي. وقد وصل التنافسُ بين الدول التي لديها برامجُ اندماجٍ قويّةٌ أشدَّه لإنشاء أول محطة طاقة اندماج تجارية بحدود عام 2050.

تاريخ موجز لمفاهيم الاندماج

تم تطوير العديد من طرق حصر البلازما الساخنة، منها الحصر القصورى والحصر المغناطيسي. تعتبر الطريقة الثانية هي الأبرز، حيث تُستعمل مجالات مغناطيسية قويّة لأغراض حصر البلازما الساخنة داخل حجرة التفاعل، و أشهر هذه الطرائق هي التوكاماك (tokamak) الذي طُوِّر في الاتحاد السوفييتي، والنجمي (stellarator) ـــــــ الذي طُوِّر في الولايات المتحدة ـــــــ والقَرْص (pinch) والمرآة (mirror) [8] و الطارة الكروية (spherical torus (ST)) وقَرْص المجال المعكوس (reversed-field pinch (RFP)) و التوكاماك الكروي – سفيروماك (spheromak) والتكوين معكوس المجال (field-reversed configuration (FRC)) والمرآة الترادفية (tandem mirror (TM)). جميع هذه المفاهيم المغناطيسية السبعة والموضحة في الشكل (3) شهدت تعديلات أساسية خلال العقود الخمسة الماضية، حيث استطاع التوكاماك أنّ يبقى المهيمن على مفاهيم الحصر المغناطيسية الأخرى حتى الآن.

دورات وقود الاندماج

يركِّز الجيل الأول من الاندماج النووي المفترَض حاليًّا على وقود(D-T) الذي يمثل الحد الأدنى من متطلبات إشعال بلازما الاندماج على النطاق التجاري. لذلك فإن معظم دراسات وتجارب الاندماج مكرسّة حالياً لدورة وقود(D-T). وبخصوص مرافق الاندماج النووي من الجيلين الثاني والثالث فتشمل دورات وقود ديوتيريوم ـــــــ ديوتيريوم (D-D) وديوتيريوم ـــــــ هيليوم3 ( Dـــــــ He3) وبروتون ــــ بورون-11 (-11BـــــــP) وهيليوم3ــــــ هيليوم3 (He3ـــــــHe3 ).

 

التفاعلات المبنية على وقود (D-T) سهلة نسبياً لأنها تحتاج درجات حرارة أقل لبدء التفاعل لكنها في المقابل تطلق فيضاً من النيوترونات عالية الطاقة والتي تتسبب في التنشيط الاشعاعي لمكوِّنات المفاعل، ممّا يُزيد من صعوبة التصميم هندسيًّا مقارنة بأنواع الوقود الأخرى التي تتطلب درجاتِ حرارة أعلى لبدء التفاعل، وبالتالي فهي أصعب فيزيائيًّا، لكنها تُنتِج (أو لا تُنتج، اعتماداً على نوع الوقود) كمياتٍ أقلَّ من النيوترونات، ممّا يجعل تصميمها أبسط نسبيًّا من الناحية الهندسية والتشغيلية. هذه العلاقات موضحة في الشكل (4).

الشكل (3). مناظر توضيحية لمفاهيم الاندماج المغناطيسي السبعة. الشكل مقتبس من[8]

 

A graph with red arrow and blue lines

Description automatically generated

الشكل (4). العلاقة بين معدّل التفاعل لتفاعلات اندماج مختلفة كدالّة مرتبطة بدرجة الحرارة. [credit: Laila El-Guebaly]

مشروع ايتر الدولي International Thermonuclear Experimental Reactor (ITER)

 

يعتبر مشروع المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي، المعروف اختصاراً بـ (ايتر)، أكبر وأبرز مشروع لطاقة الاندماج النووي في العالَم حاليًّا بمشاركة 35 دولة هي دول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، الولايات المتحدة، اليابان، الصين، كوريا، روسيا، والهند. تبلُغ كلفة المشروع حتى الآن ما يزيد على العشرين 20 مليار يورو مرشّحة للزيادة ممّا يجعل مشروع (ايتر) واحدًا من أكبر المشاريع العلمية وأكثرها كلفة على الإطلاق، متفوِّقا بذلك على مشروع مصادم الهادرونات الكبير في سيرن (ما يقارب 3 أضعاف التكلفة).

يهدف مشروع ايتر إلى إثبات الجدوى الفنية والتقنية لتوليد الطاقة باستعمال تفاعلات الاندماج. يعتبر الكثيرون مشروع (ايتر) واحدًا من أعقد المشاريع الفنية والهندسية على الإطلاق، وبالفعل، يتكوّن مفاعل ايتر الاندماجي من 10 ملايين قطعة تتكامل مع بعضها بهامش دقة يصل أحيانًا إلى أجزاء من الألف من المتر (مليمتر) في عناصر يصل طول بعضها إلى ارتفاع مبنى من 10 طوابق. هذه الدقة غير المسبوقة تجعل من تصميم وتصنيع الكثير من الأجزاء عملية بالغة التعقيد والحساسية وتتطلب مهارات فنية متقدمة تملكها الدول الصناعية الكبرى – وأحيانًا لا تملكها بشكل كُلي، فتضطر للتعاون مع بعضها لصناعة بعض المكوِّنات وتجميعها. تصل حرارة البلازما الساخنة داخل مفاعل ايتر إلى 150 مليون درجة مئوية، أي ما يقارب 10 أضعاف حرارة نواة الشمس. تجعل حرارةٌ كهذه ــــــــ مضافا إليها حزم النيوترونات والإشعاعات عالية الطاقة داخل حجرة المفاعل ـــــــ مسألةَ اختيار وتطوير مواد ذات قدرة تحمّل عالية للحرارة والإشعاع قضيةً حاسمةً لنجاح طاقة الاندماج. يُظهِر الشكل (5) ـــــــ يميناً تصميماً حاسوبياً لمنظر عام لمفاعل ايتر بارتفاع 30 مترا، إضافةً إلى منظر حقيقي لجانب من أعمال تجميع أجزاء المفاعل التي تتمّ حاليًّا كما هو موضح في الجزء الأيسر من الشكل نفسه.

ITER Tokamak Fusion Reactor - Fusion for EnergyThermal shield portfolio | All shine and precision

الشكل (5). منظر عام لمفاعل ايتر (يمين) إضافة لمنظر إحدى عمليات تجميعِ أجزاءٍ من المفاعل [credit: F4E]

خارطة الطريق لطاقة الاندماج

يبقى مشروع (ايتر) حجر الأساس في كثير من برامج الاندماج الحكومية حول العالم ونقطة العبور إلى محطات الاندماج المستقبلية، حيث تسعى الدول إلى الاستناد على نتائجه في بناء الجيل القادم من محطات الاندماج المعروفة بـ "ديمو" (والتي تهدف إلى إثبات الجدوى الاقتصادية للاندماج) وصولا إلى بناء نموذج أولي لمحطة طاقة اندماج بحلول عام 2050. بالتوازي مع الجهود الحكومية، هناك ما يزيد عن 40 شركة حول العالم حاليا تأمل في طرح نماذجها الخاصة من محطات الاندماج خلال عقد أو عقدين من الآن. تستثمر في هذه الشركات شخصياتٌ من أمثال بيل جيتس مؤسس شركة ميكروسوفت وجيف بيزوس مالك شركة أمازون وغيرهم من أقطاب عالم المال والأعمال. الشكل (6) يمثل المسار العام لبرامج الاندماج الحكومية حول العالم وصولا إلى محطات الاندماج التجارية. من الجدير بالذكر أن القطاع الخاص يفترض مساراتٍ مختلفةً لتحقيق الاندماج التجاري وخلال مدة زمنية افتراضية أقصر بشكل غير بسيط من برامج الاندماج الحكومية.

الشكل (6). المسار العالمي الحكومي للاندماج النووي بدءا من تجارب تشغيلية حالية مرورا بـ (ITER) وصولا إلى (DEMO) ثم محطة الطاقة الأولى من نوعها (التصاميم من غير مقياس رسم أو أبعاد حقيقية).

المبادرة العربية لطاقة الاندماج

هناك زخم كبير يدور حول طاقة الاندماج حاليا وصل ذروته للمرة الأولى منذ عقود. على الرغم من الكمّ الكبير من الأبحاث والتطوير في هذا المجال إلا أن هذا النشاط الحيوي لا يزال ضعيفاً جداً في العالم العربي. ولسدّ هذه الفجوة، تمّ تشكيل مجموعة عمل غير ربحية، تُسمّى "المبادرة العربية لطاقة الاندماج"، تتألف من نخبةٍ متميزةٍ من العلماء والمهندسين وقادة الصناعة الذين يعملون في أماكن بارزة في المنطقة العربية وحول العالم، ويدفعهم طموح مشترك لدعم تطوير طاقة الاندماج عربياً. تحظى المبادرة العربية لطاقة الاندماج بدعم جهات رفيعة المستوى منها الديوان الملكي الأردني، من خلال صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال، وهو أحد الشخصيات العربية الداعمة بقوةٍ للمبادرة. تعقد المجموعة الخاصة بالمبادرة اجتماعاتِ عملٍ دورية إضافةً الى التواصل مع الجهات الدولية، وندعو كلَّ مهتم بالموضوع للتواصل معنا من أجل المساهمة في هذه المبادرة الرائدة.

المصادر

[1] https://www.iter.org/newsline/-/2956

[2] https://ccfe.ukaea.uk/eddingtons-dream-becoming-reality-100th-anniversary-of-the-discovery-of-solar-fusion/

[3] Energy Institute – Statistical Review of World Energy (2023)

[4] https://www.iter.org/newsline/54/1205

[5] IAEA World Fusion Outlook 2023. https://www.iaea.org/publications/15524/iaea-world-fusion-outlook-2023.

[6] The IAEA Fusion Portal. https://nucleus.iaea.org/sites/fusionportal/Pages/Fusion%20Portal.aspx.

[7] The ITER Project. https://www.iter.org.

 

[8] Laila A. El-Guebaly, “Fifty Years of Magnetic Fusion Research (1958-2008): Brief Historical Overview and Discussion of Future Trends.” Energies 2010, 3 (6), 1067-1086 (2010). https://www.mdpi.com/1996-1073/3/6/1067

 

 

معلومة إثرائيّة:

واحدات بلانك:

من النتائج المذهلة للفيزياء الحديثة أنّ الطبيعةَ تختار الواحداتِ الأساسيةَ الخاصّة بها لمقادير الطول L والزمن T والكتلة M. هذه الواحدات الطبيعية الثلاث مرتبطةٌ بالمجالات الثلاثة المؤلَّفة من الميكانيك التقليدي والكهرمغناطيسية/النسبية وميكانيك الكمّ، فكلٌّ من هذه المواضيع يُقدّم واحدةً أساسيةً في الطبيعة:

(1) ثابتة الجاذبية (الثقالة) G من قبل الميكانيك التقليدي.

(2) سرعةَ الضوء c من قبل الكهرمغناطيسيّة والنسبيّة.

(3) ثابتة بلانك ، وقدّمها ميكانيك الكمّ.

حيث أنّ G, c, مستقلةٌ خطّياً بدلالة أبعادها، نستطيع كتابة L وT وM بدلالتها.

(1) من F=Ma، لدينا من أجل قوة الثقالة ، ممّا يعطي

(2)

(3) من معادلة بلانك E=ω (حيث ω هو التواتر بواحدة 1/T)، فيكون لدينا

يمكن الآن إيجاد L وT وM بدلالة هذه الواحدات الأساسيّة الجديدة.

(1)    طول بلانك ، ويبلغ 1.6×10-35 متراً.

(2)    زمن بلانك ، ويبلغ 5.4×10-44 ثانيةً.

(3)   كتلة بلانك ، وتبلغ 2.2×10-8 كيلوغراماً.

يتمّ تحقيق منظومة الواحدات المُفضَّلة لدينا في الفيزياء من خلال إعطاء كلٍّ من هذه الثوابت القيمةَ 1 فيها. وهذا يمنحنا سلّماً أنيقاً -وعمليّاً أيضاً- لإجراء القياسات يُدعى الواحدات الطبيعية أو واحدات بلانك.

يُعتبَر طول بلانك وزمنه ثابتتَين دون ذريّتَينsubatomic ، أمّا كتلةُ بلانك فهي ضخمةٌ بالمقارنة مع كتل الجسيمات دون الذريّة، إذ تساوي كتلتها حوالي 1019 كتلةَ البروتون، على الرغم من أنها لا تزال صغيرةً بالمقارنة مع مقاييس الحياة اليومية التي اعتدنا عليها.

مرجع: C. Vafa, Puzzles to Unravel the Universe, 2021 ، الترجمة العربية: ألغاز تكشف عن جوهر الكون، الفصل الثامن: مذهب الطبيعيّة في الفيزياء، التحليل البُعدي، دور أندروميدا 2022

 

 

 

 

 

المواد ثنائية الأبعاد وتطبيقاتها: قفزة إلى المستقبل

د. أحمد معروف – أستاذ مساعد فيزياء المواد – الجامعة الألمانية بالقاهرة

د. إيمان طه – أستاذ مساعد فيزياء المواد – معهد بحوث البترول المصري

الفضول هو ممارسة من أقدم الممارسات الإنسانية في التاريخ وهو يهدف إلى محاولة فهم البيئة المحيطة وخصائصها ومحاولة الاستفادة منها وتوظيفها بإنتاج ما سميناه بالتقانة (التكنولوجيا). تطورت هذه الممارسة عبر تاريخ البشرية وتبلورت - في ما نعرفه حالياً باسم علم الفيزياء - إلى فهم الظواهر الطبيعية المحيطة بنا فهماً رياضياً يمكّننا من تفسير هذه الظواهر والأنظمة المرتبطة بها، بل وتوقع كيفية تغيير سلوكيات هذه الأنظمة عند تغيير أي من المتغيرات المرتبطة بها. هذا الفهم الرياضي يتأسس على شقين: النمذجة الرياضية والنتائج التجريبية، وهو ما يعرف على الترتيب بالفيزياء النظرية والفيزياء العملية.

وحتى نفهم خصائص أيّ نظام معقد، يجب علينا تمثيله أو شرحه من خلال أنظمة أكثر بساطة أو أقل تعقيداً. فمثلاً دعنا نتخيل هذه الأنظمة الثلاثة التالية والتي تتكون من مجموعة من الأفراد يتمتّعون بخصائص متقاربة تماماً:

١- عدد واحد فقط من هؤلاء الأشخاص يعيش منفرداً في بيته بعيداً عن أي شخص آخر

٢- مجموعة من هؤلاء الأفراد يعيشون في مساحة كبيرة، كلٌّ في بيته، وبمسافة حوالي كيلو متر واحد بين كل بيت وآخر

٣- مجموعة من هؤلاء الأفراد يعيشون في شقق في مبنى سكني كبير

ومن المنطقي بالطبع أن تكون سلوكيات هذه المجتمعات الثلاثة مختلفة تبعاً لاختلاف التفاعلات بين هؤلاء الأشخاص، و التي تنبع من قربهم من بعضهم البعض. وهكذا الحال في مختلف المواد، فخصائص الذرات المنعزلة تختلف كلية عن خصائص تجمعات هذه الذرات سواء أكانت تجمعاتٍ في بُعد واحد أم تجمعات في بُعدين أو تجمعات في ثلاثة أبعاد. وتعتبر ميكانيكا الكم هي النظرية التي تصف بنجاح باهر الخصائص الفيزيائية والكيميائية لمختلف المواد في كل أبعادها، وهو ما نتج عنه الثراء التكنولوجي الذي تتنعم به البشرية.

من نتائج ميكانيكا الكم أن الإلكترونات تتواجد في مستويات للطاقة (energy levels/states) في الذرة المنعزلة. تتغير هذه الصورة عندما تتجمّع مجموعة من الذرات لتكوين هيكل (بنية structure) لمادة، ثلاثية الأبعاد على سبيل المثال، فتتحول مستويات الطاقة في الذرة المنعزلة إلى نطاقات من الطاقة (energy bands) تعيش فيها جميع إلكترونات المادة. هذه النطاقات هي مناطق متواصلة من الطاقة يمكن للإلكترونات الوجود فيها. قد تكون هناك فجوات (gaps) بين هذه النطاقات، فإذا كان هناك فجوة بين أكبر مستوى طاقة يسكنه إلكترون وأول مستوى طاقة شاغرة، يُقال إن المادة هي عازلة (insulating) أو نصف موصلة (semiconducting)، تبعا لقيمة الفجوة، أمّا إذا لم تكن هناك فجوة، تكون المادة موصلة للكهرباء (conducting/metallic). السيليكون والزجاج ونيتريدات البورون هي أمثلة للمواد شبه الموصلة، في حين أن النحاس والحديد والفضة أمثلة على المواد الموصلة.

المواد ثلاثية الأبعاد والمواد ثنائية الأبعاد تمثلان فئتين مختلفتين من المواد مع اختلافات جوهرية في هياكلها وخصائصها وسلوكها. في عالم المواد ثلاثية الأبعاد، يتمّ ترتيب الذرات في شبكة (lattice) ممتدة في الفراغ، وتُظهر هذه المواد خصائص متجانسة، ممّا يعني أن خصائصها الفيزيائية والكيميائية متطابقة في جميع الاتجاهات. الأمثلة على المواد ثلاثية الأبعاد تشمل المعادن والخزفيات ومعظم البوليمرات. من ناحية أخرى، تتألف المواد ثنائية الأبعاد من طبقات ذرية محصورة في مستوٍ واحد. ونتيجةً لهذه الهيكلية المسطحة (planar structure) ، غالبًا ما تُظهر المواد ثنائية الأبعاد خصائص إلكترونية وبصرية وميكانيكية فريدة تختلف بشكل كبير عن نظيراتها ثلاثية الأبعاد. على سبيل المثال، تنشأ الحركية الإلكترونية الاستثنائية والقوة الميكانيكية العالية والتوصيلية الحرارية الاستثنائية لمادّة الجرافين من طبيعتها ثنائية الأبعاد، ممّا يسمح بتطبيقات جديدة في مجالات الإلكترونيات والمستشعرات والمواد المركبة.

دعونا الآن نتكلم عن أحد العناصر الهامة، والذي كان في قلب الثقافة الإنسانية على مر العصور، وهو الكربون. المواد الكربونية معروفة على نطاق واسع لدى البشر، بدءًا من أقلام الرصاص التي طالما كتبنا بها ومازلنا، إلى خواتم الألماس، إلى تجمعات الطعام الشوائية. ذرة الكربون قادرة على تكوين عدة ترابطات، ممّا ينتج عنه عدة هياكل كربونية: الجرافيت (graphite)، الذي نستخدمه في أقلام الرصاص، هو هيكل كربوني ثلاثي الأبعاد (الشكل 1) مصنوع من طبقات من شبكة سداسية (hexagonal lattice) من ذرات الكربون بمسافة 2.5 انجستروم بين كل ذرتين متجاورتين، وتترابط هذه الطبقات معًا بواسطة قوى فان دِر فال (van der Waals) . الألماس (diamond) هو هيكل كربوني آخر ثلاثي الأبعاد أيضًا، بينما الجرافيت مادة معتمة وسهلة الكسر ويمكن فصل طبقاتها عن بعضها بسهولة، وهو ما يحدث عندما "نكتب" باستخدام قلم الرصاص، فالخط المكتوب ليس إلا عدة طبقات من طبقات الجرافيت، وعلى النقيض منه يكون الألماس شفافًا، ويُعَدّ من أقوى المواد صلابة فى الكون. ينشأ هذا الاختلاف الشاسع في الخصائص بين الجرافيت والألماس من طبيعة الارتباط بين جيران كل ذرة كربون في شبكات الجرافيت والألماس، والتي أساسها الطبيعة الكمومية للإلكترونات المتواجدة في المادة. أما النقاط الكمومية(quantum dots) ، فهي تجمعات من الذرات بحجم يتراوح بين عدة نانومترات إلى مئات النانومترات. هذه النقاط لا تمتلك تناظراً ممتداً (extended symmetry)، وبالتالي تُعتبر أنظمة صفرية البُعد. تتفاوت الخصائص الفيزيائية لهذه النقاط وفقًا لحجمها، وبشكل عام يمكن تكوين هذه الأنظمة من الكربون وغالبية العناصر والمركبات الأخرى. الكربون قادر أيضًا على تكوين مواد بتناظر أحادي البُعد مثل الأنابيب النانوية الكربونية(carbon nanotubes)، فهي أنظمة كربونية تتكون من شبكة سداسية من ذرات الكربون التي تُلفّ لتشكل أنبوبًا نانومترياً (نصف القطر حوالي 1 نانومتر والطول 1 ميكرومتر).

شكل 1. المواد الكربونية مختلفة الأبعاد

فلنعد الآن لصديقنا العزيز، الجرافيت، المادة الكربونية ثلاثية الأبعاد. كل طبقة من الجرافيت هي شبكة سداسية من الذرات، تُعرف باسم الجرافين (graphene). الجرافين هو هيكل مستقر ثنائي الأبعاد، كان دائمًا حاضراً معنا (على سبيل المثال، في كتبنا المدرسية). في الواقع، درس الفيزيائيون الجرافين منذ فترة طويلة (Wallace, 1947) في واحدة من أوائل الأبحاث النظرية التي حسبت الخصائص الإلكترونية للجرافيت، وكانت هذه الخصائص مفهومة بشكل كامل منذ ذلك الوقت، مما يُظهر قوة الفيزياء النظرية في فهم الخصائص الأساسية للمواد حتى قبل تصنيعها معملياً. وعلى الرغم من أن الجرافيت هش وغير شفاف، فإن الجرافين -على العكس- قوي جدًا وشفاف. لوح الجرافين له معامل يانج (Young’s Modulus) بقيمة حوالي ١ تيرا باسكال (1 TPaونسبة شفافية تصل إلى 98% في الطيف المرئي. بالإضافة إلى ذلك، يمنح هيكل الجرافين المسطح خصائص ميكانيكية استثنائية، مثل القوة الاستثنائية والمرونة. كما أن المساحة السطحية الكبيرة والشفافية العالية للجرافين جعلتاه واعداً لتطبيقات كثيرة في مجالات متنوعة. بشكل عام، ترتبط الخصائص الاستثنائية للجرافين ارتباطًا وثيقًا بطبيعته الثنائية الأبعاد، ممّا يمكّن من تطبيقات وتطورات تكنولوجية جديدة واسعة النطاق.

يُظهرالجرافيت خصائص شبه المعدن، حيث يمتلك تراكبًا صغيرًا بين نطاقَي الطاقة الوالي (التكافؤيvalence ) والناقل (conduction). بالمقابل، يتصرف الجرافين، الذي يتكون من شبكة عسلية ثنائية الأبعاد من ذرات الكربون، كنصف موصل بفجوة صفرية، حيث يتلاقى نطاقا الطاقة الوالي والناقل في نقطة واحدة، تشكل مخروط ديراك. هذا الهيكل الفريد يمنح الجرافين خصائص إلكترونية استثنائية، مثل الحركيّة العالية للإلكترونات، ممّا يجعله مرشحًا ممتازًا لمختلف التطبيقات الإلكترونية. بالإضافة إلى ذلك، فإن طبيعة الجرافين ذات الطبقة الأحادية تسمح بالتفاعل الفعّال مع المحفِّزات الخارجية، ممّا يعزز أداءَه الإلكتروني بالمقارنة مع الجرافيت.

وبنفس التركيب الهيكلى للجرافين، تأتي مادة نيتريدات البورون السداسي (hexagonal boron nitride - h-BN) وهى من أشهر المواد ثنائية الأبعاد، وتتألف من ذرات البورون والنيتروجين المترادفة مُرتبة في شبكة سداسية (شكل 2)، كما الحال فى الجرافين. يؤدي هذا الترتيب إلى تشكيلة كورقة مسطحة ذات طبقة واحدة بروابط تساهمية (تشاركيّة) قوية. يُظهر h-BN استقراراً حرارياً وكيميائياً ممتازاً، وقوة ميكانيكية عالية، وخواص عزل كهربائي، ففجوة الطاقة الواسعة فيه تجعله شفافًا وعازلاً ممتازًا، بينما توصيلية الحرارة العالية تجعله مناسبًا للتطبيقات في إدارة الحرارة. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبر h-BN من المواد المتوافقة حيوياً (biocompatible)، ممّا يجعله مفيدًا في التطبيقات الطبية مثل توصيل الأدوية والتصوير الحيوي. كما نجد لخواصه التشحيمية استخدامات في التطبيقات الصناعية مثل الطلاء والزيوت التزليقية. بشكل عام، يُعَدّ h-BN واعدًا لمختلف التطبيقات التكنولوجية بفضل امتلاكه مجموعةً فريدة من الخصائص.

شكل 2: h-BN نيتريدات البورون السداسية

 

قبل زيارتنا للمادة الثنائية البُعد التالية، دعونا نشير إلى قضية مهمة تتعلق بالخصائص البصرية للمواد قد تساعدنا على فهم سلوكيات هذة المواد. هناك نوعان من الفجوات الطاقوية في المواد، مباشرة وغير مباشرة. في شبه الموصلات ذات الفجوة الطاقية المباشرة (direct energy gap)، تكون الطاقة الدنيا المطلوبة للإلكترون للانتقال من الحزمة الوالية (valence band) إلى الحزمة الناقلة (conduction band) هي فرق الطاقة بين حالتين لهما نفس الزخم (momentum)، وهذا يعني أن زخم الإلكترون يظل ثابتاً أثناء الانتقال، ممّا يسمح بامتصاص فعّال للفوتونات ذات الطاقات المطابقة للفجوة. ونتيجة لذلك، تعتبر شبه الموصلات ذات الفجوة الطاقية المباشرة ممتصات ممتازة للضوء وغالبًا ما تستخدم في الأجهزة الإلكترونية البصرية مثل مصابيح الليد والليزرات. من ناحية أخرى، في شبه الموصلات ذات الفجوة الطاقية غير المباشرة (indirect energy gap)، تحدث الطاقة الدنيا المطلوبة لكتلة إلكترونية للانتقال من الحزمة الوالية إلى الحزمة الناقلة بين حالات زخم مختلفة، وهذا يحتاج إلى تغيير في زخم الإلكترون أثناء الانتقال، مما يجعل من غير المحتمل امتصاص الفوتونات بكفاءة من قبل شبه الموصل. وهكذا فإن الموصلات ذات الفجوة الطاقية غير المباشرة تمتص الضوء، ولكن بشكل أقل فعالية مقارنة بشبه الموصلات ذات الفجوة الطاقية المباشرة، ممّا يقلل من فعالية امتصاص الضوء.

من المواد ثنائية البعد الفذة تلك المعروفة بـ ثاني كالكوجينات المعادن الانتقالية (Transition metal dichalcogenides, TMDs)، مثل ثاني كبريتيد الموليبدينوم (MoS2) (شكل 3) ثاني سيلينيد التنغستن (WSe2)، وتُظهر خصائص مثيرة للاهتمام ناتجة عن طبيعتها ثنائية الأبعاد. تتكون هذه المواد من طبقات ذرية فردية مكدسة فوق بعضها البعض، مع وجود قوى فان دِر فال ضعيفة تربطها معًا (كما هو الحال في مادة الجرافيت). نظرًا لتقليل بُعدية هذه المواد، تظهر TMDs خصائص إلكترونية، بصرية، وميكانيكية فريدة. فجوة الطاقة في مواد TMDs ثنائية الأبعاد هي فجوة مباشرة مما يُمكّنها من امتصاص الضوء وإصداره بكفاءة، وبالتالي يفتح الباب لاستخدامها في تطبيقات الإلكترونيات البصرية، على عكس الحال في النسخة ثلاثية الأبعاد من هذه المواد. كما هو الحال مع المواد ثنائية الأبعاد الأخرى، يمكن التحكم في قيمة فجوة الطاقة في طبقة TMD بتطبيق توتّر ميكانيكي في الطبقة، والذي يمكن توظيفه في مجموعة متنوعة من التطبيقات.

شكل 3: المنظور العلوي والجانبي لثاني كبريتيد الموليبدينوم. الرمادي والأصفر يمثلان عناصر الموليبدينوم والكبريت، على التوالي.

من المواد ثنائية البُعد أيضا مجموعة تسمى "الإكسينات" (MXenes)، وهي فئة من المواد ثنائية الأبعاد مكونة من كاربيدات (أو نتريدات أو كاربونيترايدات) المعادن الانتقالية (شكل 4). تُظهر هذه المواد خصائص مذهلة بسبب هيكلها وتركيبها الفريد، فلها خصائص ميكانيكية ممتازة، وهي كذلك ذات توصيلية معدنية، مما يؤهلها لمختلف التطبيقات في مجالات الإلكترونيات وتخزين الطاقة والمحفزات. بالإضافة إلى ذلك، تمتلك الإكسينات كيمياءَ سطحٍ قابلةً للتعديل، مما يسمح بتعديل خصائصها لتطبيقات محددة باستخدام مجموعات كيميائية مختلفة. علاوة على ذلك، تظهر الإكسينات استقرارًا استثنائيًا وصلابة، ممّا يجعلها مناسبة للاستخدام على المدى الطويل في بيئات قاسية.

شكل 4: المنظور العلوي والجانبي ل(M2C MXene). ألوان الرمادي، الأصفر، والأحمر تمثل عناصر الموليبدينوم، الكربون، والأكسجين، على التوالي.

بينما نجوب معًا أروقة المواد ثلاثية الأبعاد ونتأمل عجائب خصائصها الفيزيائية، نقف على أعتاب فصل جديد يأخذنا إلى عالم مذهل وغير مألوف، عالم المواد ثنائية الأبعاد. تمثل هذه المواد نقلة نوعية في عالم العلوم والتكنولوجيا، حيث تفتح الأبواب أمام تطبيقات لم يكن لنا أن نحلم بها قبل عقود. من خلال تشريح هذه المواد ذات البُعد الجديد، نستكشف كيف يمكن لطبقة واحدة من الذرات أن تغير مفهومنا للقوة والتوصيلية والشفافية وتقدم تطبيقات واعدة تُعَدّ جسرًا يربط بين الماضي والمستقبل فاستعدوا للإبحار في بعض تطبيقات المواد ثنائية الأبعاد، حيث كل تطبيق يروي قصة ملهمة تحمل في طياتها وعودًا بمستقبل مفعم بالإبداع والابتكار.

1-      تطبيقات الإلكترونيات والإلكترونيات الضوئية: 🖥️ 💡

إن الموصلية الكهربائية الاستثنائية، والقوة الميكانيكية، والخصائص البصرية للمواد ثنائية الأبعاد جعلتها في مقدمة المرشحين للجيل القادم من الأجهزة الإلكترونية والإلكترونية الضوئية. على سبيل المثال، إن قدرة الجرافين العالية على الحركة والمرونة تجعله مرشحًا مثاليًا لشاشات العرض المرنة والجلود الإلكترونية (e-skins)، والتي يمكن أن تحدث ثورة في التكنولوجيا القابلة للارتداء والروبوتات. بينما تعتبر TMDsمع فجوات نطاقاتها المتغيرة، مثالية لبناء الترانزستورات والكاشفات الضوئية ومصابيح الليد مما يتيح أجهزة إلكترونية أكثر كفاءة وأرق وأكثرمرونة.

إن الغوص بشكل أعمق في مجال التطبيقات الإلكترونية والإلكترونية الضوئية للمواد ثنائية الأبعاد وفهم الآليات التي تعمل من خلالها المواد ثنائية الأبعاد على تسهيل التقدم في هذا المجال يتطلب التركيز على خصائص المواد الجوهرية، والتأثيرات الكمومية، والتفاعل بين بنية المادة والسلوك الإلكتروني ممّا لا يسع هذة المقالة إيضاحه بعمق ولكن هنا سنحاول بايجازوتبسيط توضيح هذة الآليات مع التركيز على دور هندسة بنية النطاق، والحبس الكمي، وتأثيرات الإيكسيتون، وتفاعل الضوء مع هذه المواد.

هندسة بنية النطاق (Band Structure Engineering) :

ترتبط الخصائص الإلكترونية للمواد ثنائية الأبعاد بطبيعة هياكل النطاق الخاصة بها، والتي يتم تحديدها من خلال الترتيب الذري للمادة والتداخل المداري الإلكتروني. على سبيل المثال، يَنتج التشتّت الخطي (linear dispersion) عند نقاط ديراك (Dirac points) في بنية نطاق الجرافين عن تهجين sp² لذرات الكربون، مما يؤدي إلى فجوة نطاق صفرية وحركة حاملة عالية. في المقابل، يتم تحقيق إدخال فجوة نطاق في المواد الشبيهة بالجرافين (على سبيل المثال، السيليسين والجرمانين) وTMDs من خلال التعديلات الهيكلية (مثل كسر التماثل الهيكلى أو المجالات الكهربائية الخارجية) والاقتران المداري، وهو أكثر وضوحًا في ذرات أثقل.

وبعبارة أكثر تبسيطاً: إن ترتيب الذرات وكيفية تفاعل إلكتروناتها في المواد ثنائية الأبعاد يحددان خصائصها الإلكترونية، مثل الموصلية. من خلال تعديل هذا الترتيب، يمكننا التحكم فيما إذا كانت المادة تتصرف مثل عازل (لا يوصل الكهرباء) أو موصل (يوصل الكهرباء بسهولة)، وهو أمر بالغ الأهمية لصنع أنواع مختلفة من الأجهزة الإلكترونية.

الحبس الكمومي وحالات الحافة (Quantum Confinement and Edge States):

يؤدي الاختزال إلى بُعدين في المواد ثنائية الأبعاد إلى ما يسمى بالحبس الكمي، حيث يتم تقييد حركة الإلكترونات في بعد واحد، مما يعزز التأثيرات الكمومية. يؤدي هذا الحبس إلى زيادة فجوة نطاق المادة أثناء انتقالها من الكتلة ثلاثية الأبعاد إلى الطبقة الأحادية (مستوي مسطح ثنائي الأبعاد)، وهو جانب حاسم للخصائص الإلكترونية الضوئية. حيث إن هذا الضغط فى الأبعاد يمكن أن يجعل المادة تتصرف بشكل مختلف عند حوافّها مقارنة بالوسط، لذا يمكن أن يكون الأمرُ مفيدًا لإنشاء أجهزة تحتاج إلى التحكم في تدفق الإلكترونات بدقة شديدة. يمكن أن تُظهِر حالاتُ الحافة هذة في مواد مثل الجرافين خصائصَ إلكترونيةً فريدة بسبب احتجاز الإلكترونات عند حواف المادة، ممّا يوفّر مسارات للأجهزة الإلكترونية.

تأثيرات الإيكسيتون  (Excitonic Effects):

عندما تكون المواد بهذه النحافة التى ذكرناها، يمكن للإلكترونات ونظائرها الموجبة (الثقوب) أن تقترن بشكل أكثر إحكامًا بسبب تجاذبها الكهراكدي، فتتشكّل الإكسيتونات (excitons). في المواد شبه الموصلة ثنائية الأبعاد، تعمل الأبعاد على تعزيز التأثيرات الإيكسيتونة، حيث ترتبط الإكسيتونات معًا بواسطة قوى كولومبية بقوة أكبر ممّا هي عليه في المواد ثلاثية الأبعاد. يؤدي هذا إلى طاقات ربط عالية للإكسيتون، مما يجعل ملاحظةَ الظواهر الإيكسيتونة ممكنةً في درجة حرارة الغرفة. تؤدي هذه التأثيرات الإيكسيتونة  القوية إلى تفاعلات مُحسَّنة بين الضوء والمادة، وهو أمر بالغ الأهمية لتشغيل مصابيح الليد والليزر والكواشف الضوئية والخلايا الشمسية، لأنها تسمح بامتصاص الضوء وعمليات الانبعاث (الإصدار) بكفاءة.

تفاعل الضوء مع المواد ثنائية الأبعاد:

يتأثر تفاعل الضوء مع المواد ثنائية الأبعاد بشكل أساسي بسمكها الذري وخصائصها الإلكترونية. فعلى سبيل المثال، في الـ TMDs، تُسهِّل فجوة النطاق المباشرة توليد زوج الإلكترون/ ثقب بكفاءة عند امتصاص الضوء، وهو مفتاح الأجهزة الإلكترونية الضوئية. يتم تعزيز التفاعل القوي بين الضوء والمادة بشكل أكبر من خلال الحبس ثنائي الأبعاد، مما يؤدي إلى تلألؤٍ ضوئي واضح وإمكانية وجود أجهزة كهروضوئية رقيقة جدًا. وفي الجرافين، على الرغم من فجوة نطاقه الصفرية، تسمح الموصلية الضوئية العالَمية (universal) له بامتصاص جزء ثابت من الضوء الساقط عبر طيف واسع، مما يجعله مناسبًا لأجهزة الكشف الضوئي ذات النطاق العريض. علاوة على ذلك، فإن قدرة الجرافين على دعم الموجات البلازمونية (plasmonic waves)عند ترددات متوسطة من الأشعة تحت الحمراء إلى تيراهيرتز تفتح آفاقًا أمام الأجهزة وأجهزة الاستشعار البلازمونية.

خلاصة الأمر، تؤثِّر الطبيعة الرقيقة للغاية للمواد ثنائية الأبعاد على كيفية امتصاصها للضوء وانبعاثه وتفاعله معها، وهذا يجعلها متعددة الاستخدامات لمختلف التطبيقات المتعلقة بالضوء. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات فى استخدام المواد ثناثية الابعاد ولا يزال البحث والتطوير مستمرَّين للكشف عن ظواهر ونماذج جديدة للأجهزة، ممّا يَعِد بإحداث ثورة في التقنيات الإلكترونية والإلكترونية الضوئية فى المستقبل.

2-      تطبيقات تخزين وتحويل الطاقة : 🔋

ا) تطبيقات تخزين الطاقة للمواد ثنائية الأبعاد: 🔋

يؤدي دمج المواد ثنائية الأبعاد في أنظمة تخزين الطاقة، مثل البطاريات والمكثفات الفائقة، إلى تحسين أدائها بشكل كبير. ويعود هذا التحسن في المقام الأول إلى الخصائص الفيزيائية الاستثنائية للمواد ثنائية الأبعاد التي ذكرنا، والتي تلعب دورًا محوريًا في آليات هذه الأجهزة.

المواد ثنائية الأبعاد في البطاريات:

تقوم البطاريات بتخزين الطاقة على شكل طاقة كيميائية تتحول إلى طاقة كهربائية عند تفريغها. تشتمل المكونات الأساسية للبطارية على الأنود (المصعد) والكاثود (المهبط) والإلكتروليت (الكهرل) والفاصل. تمّ استخدام المواد ثنائية الأبعاد، نظرًا لمساحة سطحها العالية، وموصليتها الكهربائية، وثباتها الكيميائي، على نطاق واسع كمواد إلكترودات في البطاريات، وخاصة بطاريات أيون الليثيوم.

مواد الأنود: يتم استخدام الجرافين كمادة أنود في بطاريات أيون الليثيوم حيث توفر مساحة السطح العالية للجرافين مواقع واسعة لامتصاص أيونات الليثيوم، وبالتالي زيادة سعة شحن البطارية. علاوة على ذلك، فإن موصليتها الكهربائية الممتازة تسهّل النقل السريع للإلكترونات، مما يؤدي إلى معدلات شحن وتفريغ أسرع. كما تساهم مرونة الجرافين وقوته الميكانيكية أيضًا في متانة البطارية ودورة حياتها.

مواد الكاثود: بالإضافة إلى الجرافين، فإن بعض المواد الأخرى ثنائية الأبعاد مثل ثنائي كالكوجينيدات المعادن الانتقالية (TMDs) تُستخدم كمواد كاثودية. تقدّم الـ TMDs، مثل ثاني كبريتيد الموليبدينوم MoS2، بنية طبقات فريدة تتيح سهولة عملية الإقحام /إلغاء الإقحام البيني لأيونات الليثيوم، على غرار الآلية الموجودة في الأنودات. تعمل هذه الخاصية على تحسين كثافة الطاقة واستقرار دورة البطاريات.

في العموم تدور آلية تخزين الطاقة في البطاريات ذات المواد ثنائية الأبعاد حول عملية الإقحام/إلغاء الإقحام (intercalation/deintercalation) البيني القابل للانعكاس للأيونات في البنية الطبقية لهذه المواد أثناء عمليات الشحن والتفريغ. تعمل المساحة السطحية المحسنة والتوصيل الفائق للمواد ثنائية الأبعاد على تسهيل حركة الأيونات هذه، ممّا يؤدي إلى زيادة قدرات تخزين الطاقة وكفاءتها.

مواد ثنائية الأبعاد في المكثفات الفائقة:

تقوم المكثفات الفائقة (Supercapacitors) بتخزين الطاقة من خلال فصل الشحنة في طبقة كهربائية مزدوجة (electric double layer) عند السطح البيني بين مادة الإلكترود والإلكتروليت، وتتميز بقدرتها على توصيل الطاقة واستيعابها بسرعة. تعتبر المواد ثنائية الأبعاد مناسبة بشكل خاص للمكثفات الفائقة نظرًا لمساحات سطحها الكبيرة وموصليتها الكهربائية العالية.

في المكثفات الكهربائية مزدوجة الطبقة (EDLCs)، يحدث تخزين الطاقة عند واجهة القطب الكهربائي/الإلكتروليت، حيث يشكّل فصْلُ الشحنة طبقة كهربائية مزدوجة. يعمل الجرافين والمواد ثنائية الأبعاد الأخرى، بمساحة سطحها الواسعة، على زيادة مساحة الواجهة المتاحة لتراكم الشحنة هذه، وبالتالي تعزيز السعة التخزينة. بالإضافة إلى ذلك، تدعم موصليتها الفائقة دورات الشحن والتفريغ السريعة، ممّا يجعلها مثالية لتطبيقات المكثفات الفائقة.

ب) تطبيقات تحويل الطاقة في المواد ثنائية الأبعاد:

تشتمل تطبيقات تحويل الطاقة التي تتضمن مواد ثنائية الأبعاد على نطاق واسع من التقنيات التي تحول شكلاً من أشكال الطاقة إلى شكل آخر، مع الاستفادة من الخصائص الفريدة لهذه المواد. تشمل المجالاتُ الرئيسية التي أظهرت فيها المواد ثنائية الأبعاد وعدًا كبيرًا الأجهزةَ الكهروضوئية لتحويل الطاقة الشمسية، والأجهزة الكهروكيميائية لتحويل الطاقة الكيميائية، والأجهزة الحرارية لتحويل الحرارة إلى كهرباء. تستغل الآلياتُ الأساسية لهذه التطبيقات الخصائصَ الإلكترونية والبصرية والحرارية المميزة للمواد ثنائية الأبعاد.

الأجهزة الكهروضوئية (تحويل الطاقة الشمسية):

تساهم المواد ثنائية الأبعاد في تعزيز الأجهزة الكهروضوئية من خلال عدة آليات:

امتصاص الضوء وفصل الشحنة: تحتوي المواد ثنائية الأبعاد مثل ثنائي كالكوجينيدات المعادن الانتقالية (TMDs) على فجوات مباشرة في نطاق طيف الضوء المرئي، مما يسمح بامتصاص الضوء بكفاءة. عند الامتصاص، يمكن لهذه المواد توليد أزواج ثقب-إلكترون (الإكسيتونات) بكفاءة عالية. يسهِّل الهيكل الرقيق ذو الطبقات فصلَ الشحنات وجمعَها بشكل فعال، وهو أمر بالغ الأهمية لتحويل الضوء إلى طاقة كهربائية.

كما تتيح مرونة وشفافية المواد ثنائية الأبعاد تطويرَ ألواحٍ شمسية مرنة وخفيفة الوزن، ما يمكن تطبيقه على الأسطح المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن لمواد مثل الجرافين أن تكون بمثابة أقطاب كهربائية شفافة، وهي ضرورية لالتقاط الضوء أثناء توصيل الكهرباء أيضًا.

الأجهزة الكهروكيميائية (تحويل الطاقة الكيميائية إلى كهربائية):

تعمل المواد ثنائية الأبعاد على تحسين الأجهزة الكهروكيميائية مثل خلايا الوقود والمحلِّلات الكهربائية من خلال:

التحفيز(Catalysis): يوفِّر العديدُ من المواد ثنائية الأبعاد خصائص تحفيزية ممتازة للتفاعلات مثل تقليل الأكسجين (في خلايا الوقود) وتقسيم الماء (في المحللات الكهربائية electrolyzers). على سبيل المثال، يوفر الجرافين والـTMDs مساحات سطحية عالية ومواقع نشطة للحفز الكيميائي، مما يحسن الكفاءة ويقلل متطلبات الطاقة لهذه التفاعلات.

النقل الأيوني (Ion Transport): يسهّل الهيكل الطبقي للمواد ثنائية الأبعاد نقل الأيونات، وهو أمر بالغ الأهمية للتفاعلات الكهروكيميائية. هذه الخاصية مهمة بشكل خاص في أجهزة مثل خلايا وقود الأكسيد الصلب (solid oxide fuel cells)، حيث يُعَدّ الانتشار السريع للأيونات عبر مادة الإلكترود أمرًا ضروريًا للأداء العالي.

الأجهزة الحرارية (تحويل الحرارة إلى كهرباء):

يستفيد تحويل الطاقة الحرارية إلى طاقة كهربائية في الأجهزة الكهروحرارية من الخصائص الحرارية الفريدة للمواد ثنائية الأبعاد، وهي:

معامل سيبيك عالٍ (Seebeck Coefficient) والموصلية الكهربائية عالية: تتطلب المادة الحرارية الجيدة معامل سيبيك مرتفعًا (لتوليد الجهد من اختلاف درجة الحرارة)، وموصلية كهربائية عالية (لتقليل تسخين جول)، وموصلية حرارية منخفضة (للحفاظ على التدرج في درجة الحرارة). يمكن للمواد ثنائية الأبعاد، مثل بعض الـ TMDCs، أن تُظهر هذه الخصائص في وقت واحد، مما يجعلها مرشحة ممتازة للتطبيقات الكهروحرارية.

الحبس الكمّي (Quantum Confinement): تؤدي الطبيعة ثنائية الأبعاد لهذه المواد إلى تأثيرات الحبس الكمي، والتي يمكن أن تعزِّز بشكل كبير من أدائها الحراري. من خلال تقليل أبعاد المادة إلى مستوٍ ثنائي الأبعاد، يمكن ضبط خصائص النقل الإلكترونية والحرارية بدقة من خلال التعديلات الهيكلية، مثل سمك الطبقة والتركيب الكيميائي.

3-      التطبيقات البيئية والطبية الحيوية 🌱

لم تقتصر تطبيقات المواد ثنائية الأبعاد على مجالات الإلكترونيات والبصريات والطاقة بل تعدّتها الى التطبيقات البيئية والحيوية مثل معالجة التلوث والاستشعار البيئي وأنظمة توصيل الأدوية والإلكترونيات الحيوية، فلعبت هذه المواد دورًا محوريًا في معالجة بعض أهم التحديات التي تواجها البشرية.

معالجة التلوث🌿

تخيل أن لدينا قوة خاصة تمكننا من التقاط الأشياء السيئة من الماء، الهواء، والتربة مثل كيف يلتقط المغناطيس الحديد. المواد ثنائية الأبعاد تقوم بشيء مشابه، حيث تساعد في إزالة الأشياء الضارة من البيئة باستخدام عمليات تسمى الامتزاز (adsorption)، التحلّل الحفزي (catalytic degradation)، والتحلّل الضوئي (photodegradation).

أحد الأمثلة البارزة فى هذا المجال هو استخدام أكسيد الجرافين GO لامتصاص المعادن الثقيلة مثل الرصاص والزرنيخ من الماء. ترتبط الأيونات المعدنية بمجموعات GO المحتوية على الأكسجين، ممّا يسهِّل إزالتها. وأيضا يتم استخدام مواد ثنائية الأبعاد مثل ثاني كبريتيد الموليبدينوم (MoS2) وكربيد التيتانيوم (MXenes) في التحلل الضوئي للملوثات. وتحت إشعاع الضوء، تولِّد هذه الموادُّ أنواعَ الأكسجين التفاعلية (reactive oxygen species) التي يمكنها تحليل الملوثات العضوية إلى مركبات أقل ضررًا.

الاستشعار والكشف🕵️‍♂️

تشبه هذه المواد أيضًا المحققين الذين يستطيعون اكتشاف الأشياء الصغيرة جدًا التي لا يمكننا عادةً رؤيتها أو الشعور بها، إذ يمكن عبر هذه المواد التعرّفُ على جزيئات معينة في الهواء أو الماء وإعطاء إشارةٍ، مثل تغيير في التيار الكهربائي، للإخبار بوجودها. هذا مفيد جدًا في مراقبة تلوث الهواء أو جودة الماء.

تُعَدّ ترانزستورات مفعول الحقل (Field-effect transistors, FETs) المستندة إلى مواد ثنائية الأبعاد نوعًا شائعًا من أجهزة الاستشعار هذه. يقوم امتزاز الجزيئات الموجودة على سطح المستشعر بتعديل موصلية قناة الـ FET، والتي يمكن قياسها كإشارة كهربائية مرتبطة بتركيز العينة المستهدفة. يمكن لهذه المستشعرات اكتشاف مجموعة واسعة من المواد، بدءًا من الغازات في مراقبة تلوث الهواء وحتى الأيونات والجزيئات في تقييم جودة المياه.

أنظمة توصيل الأدوية (Drug Delivery Systems) 💊

في الطب، تشبه هذه المواد حقائب البريد السريع التي تحمل الأدوية مباشرة إلى الأماكن المحتاجة داخل الجسم، حيث يمكنها، بفضل مساحتها السطحية الكبيرة، حمل كميات وفيرة من الدواء. والأكثر من ذلك، يمكن تعديلها لتستهدف خلايا أو أنسجة محددة في الجسم، ممّا يجعل العلاج أكثر فعالية ويقلل من الآثار الجانبية.

 

🔬 في ختام رحلتنا الاستكشافية في عالم المواد ثنائية الأبعاد وتطبيقاتها، نقف على عتبة فجر جديد يَعِد بإحداث ثورة في مجالات التكنولوجيا والعلوم والهندسة. هذه المواد، التي يقاس سمكها بذرات مفردة، لم تعد مجرد مفهوم نظري بل أصبحت حجر الزاوية في تطوير تقنيات المستقبل.

نحن الآن نشهد بدايات استخدام هذه المواد في صناعة الإلكترونيات المرنة، البطاريات عالية الكثافة، المكثقات فائقة السعة، وأجهزة الاستشعار فائقة الحساسية. ولكن، الرؤية المستقبلية للمواد ثنائية الأبعاد تتجاوز ذلك بكثير، حيث يُتوقع أن تلعب دوراً حاسماً في الحوسبة الكمومية، تحلية المياه، وحتى في الطب من خلال تطوير تقنيات جديدة لتوصيل الأدوية والعلاجات الجينية.

لا يكمن التحدي الأكبر الذي يواجهنا الآن في تصنيع هذه المواد على نطاق واسع وبكفاءة عالية فحسب، بل أيضاً في فهم وتسخير خصائصها الفريدة بطرق لم نكن نتخيلها من قبل. البحث والتطوير المستمران سيكونان مفتاحاً لتحقيق هذه الإمكانيات، مع التركيز على التجارب العملية التي تتجاوز النظريات والمحاكاة.

في المستقبل القريب، قد ننظر إلى الوراء على هذه اللحظة كنقطة تحوّلٍ حيث بدأت المواد ثنائية الأبعاد تشكيلَ مستقبلنا بطرق لم نكن نجرؤ حتى على الحلم بها. الوعد الذي تحمله هذه المواد لا يقتصر فقط على تحسين جودة حياتنا ولكن أيضاً على تقديم حلول لبعضٍ من أكبر التحديات التي تواجه البشرية. مع كلّ اكتشاف جديد، نحن لا نقترب فقط من فهم العالَم من حولنا بشكل أفضل، بل نقترب أيضاً من إمكانية إعادة تصوّره وتشكيله.

 

المراجع:

1.      Avouris, P. et al. 2D Materials: Properties and Devices. (Cambridge University Press, 2017).

 

2.      Lin, Y.-C. et al. Recent Advances in 2D Material Theory, Synthesis, Properties, and Applications. ACS Nano 17, 9694–9747 (2023).

 

 

خبر علمي:

سلوك جديد للإلكترونات داخل المواد

أعلن المكتبُ الإعلامي في جامعة Ehime اليابانيّة خبرَ اكتشاف الباحثين طريقةً لرصد إلكترونات ديراك في المواد بانتقائيّة فعّالة من خلال استخدام رنين سبين الإلكترون electron spin resonance (ESR).

سُميَّت هذه الإلكترونات باسم العالِم بول ديراك (جائزة نوبل عام 1933) الذي توصِّف معادلتُه سلوكَها، وتمّ رصدُها بواسطة العالِم أندريه جايم (جائزة نوبل عام 2010). تسلك إلكترونات ديراك في المادّة سلوكَ الفوتونات بدلاً من الإلكترونات العادية، حيث يُعتقد أنها تتحرّك بسرعة كبيرة أقلّ بمرتبتَين من سرعة الضوء في المادة كما لو كانت عديمة الكتلة.

تمثّلت الدراسةُ الأخيرة التي نُشرت في مجلة Material Advances، والتي أجراها ريوهي نايتو وزملاؤه، باعتماد طريقة رصدٍ جديدة تستخدم أربع بارامترات لتمييز إلكترونات ديراك: بارامترات الموضع x, y, z وبارامتر الطاقة E، وبالتالي كما لو كنّا في فضاء بارامترات رباعي الأبعاد. تمكّن الفريق البحثي من التمييز بين إلكترونات ديراك والإلكترونات العادية، ممّا سمح بتحديد سرعة إلكترونات ديراك وتبيان اعتمادها على الموضع والمنحى داخل المادة.

يفتح هذا الاكتشافُ الأبوابَ أمام استخدام إلكترونات ديراك في تطوير أجهزة إلكترونية متطوّرة بكفاءة استثنائية واستهلاكٍ منخفض للطاقة.

 

Photon-like electrons in a four-dimensional world discovered in a real material
 

 

 

 

 

 

 

 


مرجع

 

 

خبر علمي:

تطوير دارات إلكترونية حيوية قابلة للحقن في الأنسجة الحية

في تطور علمي ملفت، نجح فريق من الباحثين من جامعات لينكوبينغ ولوند وغوتنبرغ السويديّة في تركيب دارات إلكترونية صغريّة مباشرة ضمن الأنسجة الحية، ممّا يمثل خطوة كبيرة في مجال الإلكترونيات الحيويّة. استخدم الباحثون جِلًا (هلاميّة) قابلًا للحقن يتحول داخل الجسم إلى أقطاب كهربائية ناعمة ومرنة، بفضل تفاعلٍ كيميائي يحدث بواسطة إنزيمات موجودة في الجِل. يفتح هذا الابتكارُ آفاقًا جديدة لدراسة الإشارات الكهربائية للجهاز العصبي وتطوير علاجاتٍ تعتمد على تعديل الدارات العصبية مباشرة داخل الأنسجة الحية.

مرجع

 

 

 

مقابلة

من الأبواب الثابتة في مجلّة مسارات إجراء مقابلة مع أحد الشخصيّات العلميّة المهمّة في العالَم العربي أو في العالَم. يُشرّفنا في العدد الأول من مجلّتنا أن نستضيف الأستاذ أتيش دابهولكار Atish DABHOLKAR مدير مركز عبد السلام الدولي للفيزياء النظريّة ICTP في مدينة تريستا-إيطاليا، وهو من الخبراء العالَميّين في مجال الثقوب السوداء الكموميّة، وخامس مدير لهذا المركز المرموق السمعة الذي أسّسه العالَم الباكستاني محمد عبد السلام الحائز على جائزة نوبل 1979 في الفيزياء عن عمله في توحيد القوتَين النووية الضعيفة والكهرمغناطيسيّة، والذي يؤمِّن برامج تعاونٍ علمي لكثيرٍ من العامِلين في العالَم الثالث ويقيم العديدَ من الفعاليّات العلميّة من مدارس ومؤتمرات، كما أنه يُشرِف على العديد من الجوائز المرموقة من مثل مداليّة ديراك. أجرى اللقاءَ يوم 5 مارس-آذار 2024 كلٌّ من نضال شمعون ورند الفار من فريق التحرير. يمكن مشاهدة المقابلة كاملةً على الرابِط:

مقابلة مع الأستاذ أتيش دابهولكار، مدير الـICTP

 

نضال: مساء الخير، بروفيسور دابهولكار، يُشرفنا جدًا تواجدك في هذا العدد الأول من مجلتنا مسارات في الفيزياء. اسمح لي أن أغتنم هذه اللحظات لتقديم مجلتنا: إنها تضمّ مقالاتٍ مكتوبةً بالعربية تشرح بعبارات بسيطة الأبحاثَ المتقدمة، وتصدر عن الجمعية العربية للفيزياء التي تأسست العام الماضي على يد فيزيائيين عرب بهدف تعزيز المعرفة والتعليم والبحث في مجال الفيزياء في العالَم العربي. أنا نضال شمعون ومعي رند الفار من فريق تحرير المجلة. نحن سعداء جدا للقائك.

أتيش: شكرًا لك، إنه لمن دواعي سروري أن ألتقي بكما.

 

نضال: هل يمكنك أن تعطينا نبذةً عن رحلتك الشخصية في الفيزياء النظرية وكيف أصبحت رئيسًا للـ ICTP؟ أين أنهيت دراستك الجامعية والدراسات العليا وما هو مجال اهتمامك؟

أتيش: حسنًا، أنا من الهند. حصلت على درجة الماجستير في الفيزياء من المعهد الهندي للتكنولوجيا، وهو أحد المعاهد الوطنية الرائدة في الهند في مجال الفيزياء، ثم ذهبت إلى جامعة برينستون للحصول على درجة الدكتوراه. أشرف على دراستي البروفيسور جيفري هارفي، وهو فيزيائي نظري معروف، وحصلت على درجة الدكتوراه في نظرية الأوتار، ثم واصلت العمل في الولايات المتحدة لسنوات عديدة، فعملت في روتجرز وهارفارد ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ثم كنت حريصًا جدًا على العودة إلى الهند مثل عبد السلام -الذي عاد إلى باكستان لأسباب شخصية- فعملت أستاذًا في معهد تاتا للأبحاث الأساسية في مومباي لعدة سنوات، ثم انتقلت إلى باريس للعمل بعض الوقت وذهبت إلى أماكن أخرى مثل سيرن وستانفورد، وبعد ذلك منذ حوالي عشر سنوات انتقلت إلى ICTP وكنت مديرًا خلال السنوات الأربع الماضية. مجالُ بحثي ليس بعيدًا عن العمل الذي حصل بفضله عبد السلام على جائزة نوبل مع واينبرغ وجلاشو، حيث عُدَّ عملُهم علامةً فارقة في تحقيق هدف الفيزيائيين النظريين لتوحيد جميع القوى. أحد جوانب أبحاثي هو البحث عن الإطار المُوحِّد لوصف النظرية النسبية العامة لأينشتاين بطريقة متّسقة مع ميكانيك الكم، وهنا تلعب نظرية الأوتار في الواقع دورًا مهمًا للغاية، فهي واحدة من أكثر النظريّات الواعدة نحو تحقيق هذا الهدف، حيث يسير توحيد جميع القوى بشكل طبيعي تمامًا في إطارها، لذا فهو حقًا مجال بحوثٍ مثير.

 

رند: عظيم. ما الذي جذبك عندما كنت طالبًا شابًا إلى التخصص في الفيزياء النظرية؟ ومن ناحية الإدارة، هل كان لرؤية عبد السلام دورٌ رئيسٌ في سعيِك لأن تصبح مديراً لمركزه؟

أتيش: حسنًا، أعتقد أنك تدرسين الفيزياء أيضًا، لذا فأنت تعلمين أن الفيزياء مثيرة فكرياً للغاية، أعني أنكِ تعلمتِ أشياء رائعة عن النسبية وميكانيك الكم، وهو أمر رائع دائمًا للطالب المُهتَمّ. أعني أنه إذا كنتَ جيدًا بشكل معقول في الفيزياء والرياضيات، فهذا حقًا مجالٌ مَعرفيٌّ مثيرٌ بالنسبةِ لك، وهناك نوع من الرومانسيّة هنا إلى حد ما، فأنتَ لا تتخذ قرارًا عقلانيًا تمامًا، بل تراه شيئَا مثيرًا تريد القيام به، وأحيانًا لا تعرف حتى ما إذا كنت جيدًا فيه، أو كيف تفعله، ولكن هذا العمق الفكري في الفيزياء النظرية هو جزء من جاذبية الفيزياء. وأود أن أقول إن عبد السلام أيضًا كان مصدرَ إلهامٍ فعملُه في توحيد القوى الكهروضعيفة يُعدّ مَعلَمًا مهمًا للغاية، ولكن بالنسبة لي شخصيًا قمت بزيارة ICTP عندما كنت طالبًا في برينستون والتقيت بعبد السلام لفترة وجيزة، فكان مصدرَ إلهام بالنسبة لي كعالِمٍ من الهند، فأبحاثُه ورؤيتُه والتزامُه الحقيقي بالعلوم العالَمية أمورٌ أتعاطف معها كثيرًا وأجدها قريبةً جدًا من قلبي. أعتقد أن العِلمَ ركن جوهريّ حقًا للتنمية الاقتصادية في أي بلد، كما أنه قوة مهمة جدًا للتعاون والتفاهم الدوليَّين، ولهذا السبب كانت رسالةُ الـ ICTP أيضًا شيئًا قريبًا من قلبي، وعندما أتتِ الفرصة وتمّ الاتصال بي للنظر في إمكانية أن أكون المدير، شعرت بالارتباط لسببٍ وجدانيّ كذلك: جاء عبد السلام من قرية صغيرة في باكستان وعاد إلى باكستان ولم يتمكن من مواصلة علومه هناك، فشعر أنه يتعيّن عليه الاختيار بين بلده وعلمه، وتم إنشاء المركز الدولي للفيزياء النظرية، لكي يصبح مركزًا دوليًا للعلوم حيث يمكن للعلماء من جميع أنحاء العالم القدوم والعودة إلى وطنهم ومواصلة القيام بأبحاثهم. أنا أيضاً، عندما عدت إلى الهند كان لدي دافعٌ مماثل، فلقد نشأت أيضًا في قرية صغيرة في الهند، وهكذا يمكنني القول بوجود تماثلٍ مع خلفية عبد السلام، لكن بالطبع عندما عدت إلى الهند في القرن الحادي والعشرين، كانت مختلفةً تمامًا عن باكستان في الستينيات. لدينا الآن بعض معاهد الفيزياء النظرية الممتازة، ويمكنني العودة دون التضحية بعلمي، لكن أعتقد أن رسالة الـ ICTP تبقى مُهمّةً اليوم.

 

ICTP on X: "Watch ICTP's @SandroScandolo talking about ICTP in the first  episode of "Magazzino 26", a programme by @RaiCultura focussing on Trieste  and its science institutions, on the occasion of #ESOF2020.

مبنى المركز الدولي للفيزياء النظريّة في تريستا – إيطاليا. مصدر

 

 

نضال: في هذا الصدد، هل يمكنك أن تقدم لقرائنا في العالم العربي لمحةً عامة عن رسالةِ المركز الدولي للفيزياء النظرية ICTP وبرنامج الأنشطة التي يقوم بها من أجل تحقيق أهدافه؟

أتيش: إن ICTP مؤسسة فريدة من نوعها، ولا أعرف في الواقع أي مؤسسة أخرى في العالَم لديها هذا الدور المهم. نحن منظمة دوليّة تابعة للأمم المتحدة، أُنشِئت وفق اتفاقية ثلاثية بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية والحكومة الإيطالية واليونسكو، ونُصنَّف كمركزٍ من الفئة الأولى لليونسكو، ممّا يمنحنا حيادية معينة للمنصة، وهذا أمر مهم للغاية فحتى أثناء الحرب الباردة كان المركز يجمع علماءً من الشرق والغرب، وحتى اليوم يُعدّ ICTP مكانًا يجتمع فيه العلماء من أرجاء العالَم بعضُهم من بلدانٍ قد لا تكون على علاقة سياسية جيدة فيما بينها، فيوفّر المركز إمكانيّةَ استمرار التعاون على المستوى العلمي. تنصّ رسالةُ الـ ICTP على وجوب كون العِلمِ قوةً لجمع الناس معًا، وهذا الدور مهم جدًا للوضع العالمي الحالي. تكمن المهمةُ الأساسية للـ ICTP في بناء القدرات في مجال العلوم وجعلها متاحة عالميًا للجميع، والتغلب على حواجز الجنس والعرق والجغرافيا، أعني أنه إذا كنت بعيدًا عن مركز العلوم، فإن قدرتك على إجراء أبحاث متقدمة تكون عادةً محدودة، ولذلك يمنح ICTP العلماَء من جميع أنحاء العالم الفرصةَ للمجيء إليه هنا لقضاء فترة تمتد من أسابيع إلى سنين يتفاعلون خلالها حقًا مع أفضل الأشخاص في هذا المجال في العالَم. لدينا ما يقرب من 6000 عالِم يزورنا سنويّاً من جميع أنحاء العالم، بنسبة حوالي 2/3 من البلدان النامية، وحوالي الثلث من النساء، كما يتمّ تمويل العلماء القادمين من البلدان النامية بالكامل من قبل الـ ICTP. إنها مهمة رائعة حقًا. علاوة على ذلك، ساهم الـICTP في العديد من الإنجازات المهمة في الفيزياء والرياضيات وعلوم المناخ وما إلى ذلك، إذ تمّ الحصول على خمس جوائز نوبل بفضل أعمالٍ مُنجَزةٍ هنا في الـ ICTP. لذا، فإن هذه المهمة الأساسية المتمثلة في التميّز والشموليّة والتعاون الدولي هي ما يجعل الـ ICTP فريدًا.

 

رند: برأيك، ما هي أهم القضايا التي تواجه العلماء والباحثين العرب في الفيزياء النظرية وهل يمكن للـ ICTP معالجة هذه التحديات والتغلب عليها؟

أتيش: أعتقد أن أحد الأسئلة التي أراد عبد السلام الإجابةَ عليها أثناء وجوده في باكستان هو العزلة الفكرية للعلماء. أن تعمل بالجامعة في بلدك، بعيدًا عن الزملاء الخبراء الذين يعملون في مجالات اهتماماتك، يؤدي إلى الشعور بالعزلة الفكرية، لذلك من المهام الأساسية لـلـ ICTP إنهاء هذا الشعور بالعزلة العلمية، وأعتقد أن هذا الأمر يبقى صالحًا لغاية اليوم حتى في بلد مثل الهند بمجتمعٍ علمي قوي خاص به. أعتقد أن هذه المشكلة موجودة وبقوة في العالَم العربي، فبالرغم من أن العديد من دوله في وضع جيد اقتصاديًا، لكنها لا تزال معزولة علميًا، بينما هناك دول عربية كثيرة تعاني من مشاكل اقتصادية وسياسية، ما يجعل من الصعب على العلماء العرب متابعة علومهم، والـ ICTP يجعل هذه الفرصةَ متاحة.

 

نضال: نقوم في الجمعيّة العربيّة للفيزياء بتنفيذ برنامج من الأنشطة، بدءًا من المدارس الصيفية وانتهاءً بالندوات والمؤتمرات العلميّة. هل ترى أوجه تشابه حيث يستطيع الـ ICTP مساعدة الجمعية في مهامّها؟

أتيش: سيكون الـ ICTP سعيدًا جدًا بالتعاون مع جمعيّتكم لتنظيم أنشطة علمية في العالم العربي، إذ يُعدّ هذا بالتأكيد جزءًا من مهمة الـ ICTP. في الحقيقة، لدينا العديد من البرامج ذات الصلة، فقد قمنا بتنظيم حوالي 60 مؤتمرًا دوليًا في حرمنا الجامعي، ولكننا ندعم أيضًا العديد من الأنشطة حول العالَم بميزانية صغيرة معتدلة نسبيًا. لدينا أيضًا برنامج يسمى التدريب والبحث في المختبرات، بالرغم من أننا معهد للفيزياء النظرية. لنفترض مثلاً أن شخصًا مهتمّ بآلة المواقِت (السنكروترون): لدينا منشأة سنكروترون دولية في تريستا، وهي "إلكترا"، وبالتالي يمكن للعلماء أن يأتوا من خلال الـ ICTP لحضور مؤتمرات حول هذا الموضوع أو للعمل في إلكترا. علاوةً على ذلك، لدينا برنامج تعاون تعليمي بحيث يمكن لطلاّب الدكتوراة العرب قضاءُ جزء من دراستهم في الـ ICTP. في الآونة الأخيرة، قمنا بالتعاون مع الصندوق العربي وكذلك مع مؤسسة الكويت، حيث حصلنا على تمويل جيد جدًا من كليهما -وأنا ممتن لذلك- بهدف جعل هذا النوع من برامج الزيارات العلميّة متاحًا على نطاق واسع للعلماء في العالَم العربي. لذلك أعتقد أننا سنكون سعداء للغاية بالتعاون مع الجمعية العربية للفيزياء؛ هناك بالطبع مسألة التمويل، ولكن الأمرَ يستحق التفكير فيه معًا. لدى الـ ICTP إمكانيات كبيرة واهتمام بالعالَم العربي: لدينا ما يقرب من 10000 عالِم عربي زار الـ ICTP خلال السنوات العديدة الماضية، وهذا عدد كبير، لذلك نودّ الاستمرار في لعب هذا الدور.

 

رند: هذا رائع، ولكن بالنظر إلى المستقبل، ما هي أهدافك بالنسبة لـلـ ICTP وخاصة فيما يتعلق بالتأثير على المنطقة العربية، فهل لديك أية مشاريع أو مبادرات قادمة تثير اهتمامك؟

أتيش: عندما أصبحتُ مديراً سألت نفسي هذا السؤال: هل لا تزال رؤية عبد السلام صالحةً لغاية اليوم؟ هل نحن حقا بحاجة إلى الـ ICTP؟ وإجابتي على ذلك هي نعم، لأن هناك حاجة كبيرة في العالَم لمثله، وحيث أنه من الصعب جدًا إنشاء هيكلٍ مثل ICTP الآن، لذلك يجب الحفاظ على هذه المؤسسة العلمية ومحاولة توسيع دورها لأنها حقًا كنزٌ للعالَم. ولكن من الصحيح أيضًا أنه لا يمكن العمل بشكل آلي، وعلينا أن نفكر بشكل مختلف في القرن الحادي والعشرين، فهناك أولويات وتحدّيات مختلفة عمّا كان عبد السلام مهتمًا به. لقد تغيّر العلم أيضًا، ولم نعدْ نبحث عن جسيم هيغز لأننا وجدناه، بل نبحث الآن عن أسئلة مختلفة. نشهد حاليّا تغييرات اقتصاديّةً مهمة في العديد من البلدان، مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا والصين، وتوجد بالفعل مجتمعات علمية قوية فيها، فلا يشكِّل التمويلُ هنا -أو في بعض البلاد العربيّة- المشكلةَ الحقيقية. أعتقد أن الشراكةَ يمكن أن تكون أكثر مساواةً بالمقارنة مع الماضي، ويتمثّل الهدفُ الرئيس في المساعدة على جعل هذه المجتمعات العلميّة الدولية أكثر ارتباطًا ببعضها البعض، وأرى في هذا المكان دورًا لـلـ ICTP، وهذا هو نوع الاتفاقيات التي نبرمها مع الصندوق العربي ومؤسسة الكويت. أحد البرامج التي أهتم بها بشكل خاص والتي أعتقد أنها ستكون ضروريّة، ليس في العالم العربي ولكن في جميع أنحاء العالم، هو الحوسبة. أنّى نتلفّت نجد أخبارًا حول الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وChatgpt والسيارات ذاتية القيادة. غدا هذا الأمر جزءًا مهمًا من العِلْم أيضًا في الوقت الحالي، وفي مجالاتٍ عديدة مثل نمذجة المناخ، والمواد الكمومية، وعلوم المواد، وتحليل المعطيات الكبيرة في السيرن CERN؛ ومن الواضح أن المنافسة في هذا المجال ستشتدّ في السنوات القادمة عمّا كانت عليه سابقاً. أنا نفسي، لا يمكن أن أبقى عالِمَ فيزياء يعمل بالقلم والورقة مثل عبد السلام. حيث إن المهمة الأساسية للــ ICTP هي العلم المفتوح، فأيّ فكرةٍ تتبنّى هذه الرؤية يجب أن تتضمن فكرةَ الوصول المفتوح إلى الحوسبة والموارد التنافسية، ولهذا السبب أطلقنا اتحادًا دوليًا للحوسبة العلمية. لقد ضغطنا من أجل ذلك في السنوات الأربع الماضية، وحققنا نجاحًا جيدًا ونحن نسير على الطريق الصحيح، فنحن نعمل في البرازيل أو إندونيسيا أو مع الشركات الغنية، مثل IBM، وهدفُنا إنشاء اتّحاد بين مراكز حوسبة فائقة وطنية في جميع أنحاء العالم بحيث تصبح هذه الموارد الحسابية متاحة على نطاق واسع للجميع، وهذا ما أعتبره التزامًا مهمًا للـ ICTP يتطلب تمويلًا كبيرًا ولكنه يتطلب أيضًا التعاون. أنا متحمس جدًا لهذه الفكرة، وآمل أن تصبح واحدة من الركائز الأساسية للـ ICTP في السنوات العشر القادمة.

 

 

نضال: حسنًا، لدي سؤال ذو صلة، ويتعلق بالـ ICTP: العديد من زملائي الذين زاروه في الماضي، يقول بأنّ في الـICTP الآن توسعًا في العلوم التطبيقية، مثل علوم الأرض والفيزياء الطبية والتكنولوجيا وتحليل البيانات، ويعتقد أن هذا قد يقلِّل من تأثيره ورسالته الأصلية المتمثلة في تعزيز العلوم الأساسية النظرية في البلدان النامية. ما أفكارك حول هذا؟

أتيش: نعم، أعتقد أنني أستطيع أن أفهم من أين يأتي هذا التفكير، لأنني شخصيًّا أعمل في مجال الثقوب السوداء الكمومية ونظرية الأوتار التي لا تؤثِّر مباشرة على مشاكل المجتمع، وإن كانت باعتقادي تمثِّل جانبًا مهمًّا جدًا من العلوم، وهي الحقل الذي يتمتع فيه الـ ICTP بالكفاءة الرائدة، فلدينا أشخاص جيدون جدًا يعملون في مجالات العلوم الأساسيّة النظريّة. لا أعتقد أن الأمر يعني الابتعاد عمّا نحن أكفّاء فيه، وهذا بالتأكيد ليس تفكيرَنا في الـ ICTP، ولكن لو كنتَ مهتمًا بالأسئلة الأساسية، من مثل الكون المبكر، لاحتجت إلى تحليل بياناتِ رصدٍ تتطلّب قدرًا هائلاً من الحوسبة. الطريقة التي أنظر بها إلى الأمر هي أن الاستشارات الخاصّة بالحوسبة العلمية ستساعد بالتأكيد مجالاتٍ مثل نمذجة المناخ، ولكن في الحوسبة الكمومية نحتاج كذلك إلى فهمٍ أساسي حول نظريّة المعلومات الكمومية. هناك بعض الروابط الجميلة جدًا في بحوثي بين التشابك الكمومي وهندسة الزمكان والجاذبية، لذا فإن العلوم مرتبطة وبطرائق متنوّعة، كما أن بعض هذه التقنيات الحديثة تُستخدَم في موضوعات بحتة مجرّدة تمامًا، مثلاً في الطوبولوجيا الجبرية، ولا يقتضي لجوءُنا المتنامي للحوسبة حتميّةَ إجراء نمذجة أو حوسبة عالية الأداء. على سبيل المثال، إذا كنتَ ترغب في اختبار تخميناتٍ نظريّة، يمكن للبشر إجراءُ تحليلاتٍ تصل -ولنقل-إلى أربعين مرّة بسهولة، ولكن يمكن للحاسوب القيام بذلك وبسهولة حتى أربعمائة مرة، فاستخدام الحوسبة يمكن أن يساعد التفكيرَ البشري، وأنظرُ إلى الحوسبة والعلمِ الأساسي كما لو كانا متكاملَين. أؤمن أن الـ ICTP بحاجة إلى القيام بالأمرين معًا، لا القيام بواحد على حساب الآخر، لذلك هدفي من الاتحاد الدولي للحوسبة العلمية هو الحصول على تمويل إضافي لهذه المبادرة، وليس تحويل التمويل بعيداً عن اختصاصنا الأساسي.

 

رند: على الجانب الآخر، يشكو العديد من النظريّين والعلماء الأساسيين في العالَم العربي ودول العالم الثالث النامية عمومًا من أن أعمالهم لا تجد اهتمامًا، ناهيك عن التمويل، بل يُتّهَم النظريّون بالعمل في ترف العلم بينما يُزعم أن دول العالَم الثالث تحتاج فقط إلى مجالات ذات تطبيقات مباشرة على تنمية البلاد. كيف تعتقد أنه يمكننا المحاججة ضد هذه الادعاءات؟

أتيش: شكرًا رند، لقد طرحتِ سؤالًا مهمًا للغاية، وهو سؤال تصارعت معه بنفسي عندما عدت إلى الهند، وهو هل ينبغي لي أن أعمل في هذه البيئة المريحة والمسائل المتعلّقة بالثقوب السوداء في بلدي؟ من الواضح أن هناك مشاكلَ تنمويةً كبيرة تواجه دولة مثل الهند، وأعتقد أنه من المهم جدًا أن يُقرّ العلماء بالامتنان لمجتمعٍ يجدون فيه بيئةً تسمح لهم بمعالجةِ مثل هذه المسائل. إنه لشرف كبير حقًا أن يكون لدينا هذا النوع من حرية التفكير في بلد محدود الموارد، وأفهم تمامًا التحدياتِ أمام صانعي السياسات عندما يتعين عليهم اتخاذ قرار بشأن تمويل البحوث العلميّة والتعليم الابتدائي والصحة والمياه النظيفة التي تظل حتى اليوم -في بلد مثل الهند- من الأولويات. أعتقد أنه سيكون نوعاً من الانغلاق والتمركز حول الذات القولُ بحاجتنا إلى تمويلٍ للعلوم النظرية على حساب كلّ هذا، ولكنّ الجانبَ الآخر من الأمر يكمن في أن دعمَ العلوم النظريّة تحدٍّ يجب النجاح في إدارتِه. أنا على قناعة تامة بأن البلدان النامية يجب أن تستثمر بشكل مطلق في العلوم النظرية والسبب هو أن العلومَ مترابطة للغاية ولا يوجد طريق مختصر، فلا يمكنك القفزُ مثلًا من حالةٍ تجهل فيها أساسيّات الميكانيك التقليدي والكمومي إلى بناء أجهزة حاسوبٍ كمومية، لأنك تحتاج إلى شخصٍ ما في مجتمعك قادرٍ على فهم هذه الأساسيّات وعلى تدريب الطلاب لاستخدامها في مفاهيمَ هندسيّة كموميّة. كانت لدينا مدرسة للذكاء الاصطناعي في أفريقيا تقدّم لها مائتا طالب، وعشرة منهم فقط كانت لديهم الخلفية الكافية في الإحصاء والرياضيات والفيزياء تجعلهم قادرين حقًا على استخدامها في الذكاء الاصطناعي الفعّال لتنفيذ بعض الخوارزميات. في هذا الصدد، أودّ قصّ الطرفة التاريخيّة عندما كان الملك بطليموس الأوّل يحاول تعلم الهندسة من إقليدس، وإذ كان الأمر معقدًا سأله: "هل يمكنك تبسيط هذا"، فأجابَ إقليدس: "آسف يا صاحب الجلالة، لا يوجد طريق ملكي إلى الهندسة"، وأنا أيضًا أعتقد أنه لا يوجد طريق ملكي إلى التطور أو إلى العلوم لأنه عليك حقًا إنشاء مجتمع واسع من العلماء داخل البلاد. نرى في جميع أنحاء العالم مقدارَ الجهل بأهميّة العلم، حتى في البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة، ونتذكّر جميعًا المعارضةَ الشديدة أثناء كوفيد لحملات التطعيم. من المهم جدًا أن نكون قادرين على إيصال أهمية العلوم الأساسية وماهيّتها للجمهور، وهذا مكانٌ أعتقد أن يلعبَ فيه العامِلون في العلوم الأساسيّة دورًا كبيرًا من خلال تنمية الوعي العام، وإرساء نهجٍ أكثر شموليّةً لتحقيق التقدّم والتطوّر، حيث بالطبع سيحتل التعليم الابتدائي والصحة الجزءَ الأكبر من الأولويات، لكنني أعتقد أن تجاهلَ العلوم الأساسية تمامًا وحصرَ التفكير في التقانة سياسةٌ قصيرةُ النظر للغاية، سوف ترسِّخ معاناة البلد النامي. أعتقد أن عبد السلام كان مُدرِكًا وبوضوحٍ أن البلدَ ذا الثقافةِ التي تتجاهل العلومَ عالية المستوى سيفشل بالالتحاق بباقي الدول.

 

نضال: لدى الـ ICTP معاهد مختلفة في العالم مثل معهد ICTP-أمريكا الجنوبية للأبحاث الأساسية في ساو باولو، ومعهد ICTP-شرق إفريقيا للأبحاث الأساسية في رواندا، ومعهد ICTP-آسيا والمحيط الهادي في الصين، وغيرها. نتساءل هنا لماذا لم تكن هناك مبادرة مماثلة في الدول العربية؟ لقد تحدثتَ للتوّ عن كيفية ترتيب التعاون بين ICTP والجمعية العربية للفيزياء، فهل يمكننا تصوّر نوع من خطّة، أو مذكرة تفاهم، بين المؤسّستَين لتأطير التعاون في النشاطات المشتركة؟

أتيش: أستطيع أن أخبرك بشيء تعلمناه من هذه التجارب. هناك إجماع على أن الفكرة الأساسية المتمثلة في وجود معهد شريك هي فكرة جيدة جدًا، حيث إنكَ تفعل محليًا ما قد لا يمكن حدوثه عالميًا. ذكرتَ أمريكا اللاتينية، فدعْني أخبرك أنني كنت قبل أسبوعين فقط في البرازيل للاحتفال بالذكرى السنوية الثانية عشرة لمعهدنا الشريك هناك، وصادف ذلك أيضاً الذكرى الستين للــ ICTP: لقد كانت مناسبة جميلة، شهدتُ فيها كمِ ازدهر هذا الشريكُ، فهناك تمويل قوي جدًا من الحكومة المحلية ودعمٌ قويٌ من جامعة ساوباولو، وكان جميع كبار المسؤولين من الجامعة ووكالات التمويل حاضرين، ولذلك أؤكِّد إن معهدنا الشريك هناك قصّةُ نجاحٍ حقيقيّة. لذا، إذا كنت تريد تكرارَ هذا النجاح، فلا يمكنك المضي قدمًا فيه بمجرد توقيع مذكّرة تفاهم، بل يجب أن يكون هناك تعهّدٌ وتفهّمٌ جدّيّان لهذه الحالة العلمية والتزامٌ كامِل من قبل السلطة المحلية حول نوع التمويل الذي سيتم تقديمه لهذه الجهود؟ ما نوع الموارد التي سيتم تقديمها؟ أين سيكون الموقع؟ كلّ ذلك يجب أن يتمّ بحثه بشكل شامل. يمكن أن يكون لدينا وحدةٌ مكتبيّةٌ خاصّة بذاك النوع من التنقّل الذي وصفته لك، فتساعد في تنظيم المؤتمرات معًا، وفي توفير فرصٍ لقدوم علماء عرب، تكون بدايةً لتطوير نواةٍ من الأشخاص يمكنها بعد ذلك إنشاء مجموعة أساسية من الأفراد تحاول بعدها إنشاءَ معهدٍ شريك للـ ICTP، وأعتقد أن هذا بالتأكيد إمكانيّةٌ مُحتمَلة، وقد يكون من المثير جدًّا القيام بها في العالَم العربي، ولكن يجب على المرء أن يبدأ باقتراح كاملٍ قوي ومدروس جيدًا. ما هي ترتيبات التمويل للسنوات العشر القادمة؟ أي دولة أو مؤسسة ترغب في الالتزام بذلك؟ وإلا فإنها تصبح مبادرة جيدة لن تحقق نتائج على المدى الطويل. يمكنني القول إنني سأكون داعمًا جدًا إذا كان هناك أشخاص ما في جمعيّـتكم يتبنّون هذه الفكرة، لأن بعض الدول العربية ستكون على استعداد لتوفير الأموال وسيكون الـ ICTP مستعدًّا لتقديم خبرته ومكانته الدولية في خدمة هذه الفكرة. لكن أعود وأقول يجب أن يكون هناك هذا النوع من الفهم الحقيقي، لأنه لا تنسَ -على سبيل المثال- أن مواردَنا محدودة بالفعل، ولكنها بالنسبة لحجمها ذاتُ تأثيرٍ كبيرٍ في العالَم. كما أخبرتكَ، نحن نتعاون مع العالَم العربي، فإذا كان من الممكن وضع مقترحٍ متماسكٍ مع بعض الفَهم للتحدّيات وماهيّة المتطلّبات، فأعتقد أنها فكرة رائعة وسأكون على استعداد لمتابعة ذلك.

 

رند: هذا عظيم. يبدو أن مشاركة الأفراد العرب في أنشطة الـ ICTP مثل برامج دبلوم الـ ICTP والمدارس الصيفية وورش العمل والشراكة، قد قلّت بالنسبة إلى الماضي، فهل يمكنك تقديم تفسير لهذا وهل لديك أي اقتراحات للتغلب عليها؟

أتيش: كما أخبرتكِ فإن هدفَ زيادةِ المشاركة هو بالضبط ما جعلني سعيدًا للغاية بالتعاون مع المدير العام الجديد للصندوق العربي، وكذلك مع مدير المؤسسة الكويتية، فقد كان كلاهما حريصَين على التعاون مع الـ ICTP، ورحّبا بالهدف الذي صبوتُ إليه، فتقدّمنا ​​بمشروع جميل وقاما على الفور بدعمه وتمويله، لذلك أتوقع أنه مع هذا التمويل الإضافي، ستزداد المشاركة من العالَم العربي بالتأكيد. وهناك نقطة أخرى أريد عرضَها، تكمن في لعب الـ ICTP لدورٍ مهمٍّ في حماية العلماء الذين يعيشون في مناطقَ اضطراباتٍ اجتماعية أو سياسيّة، أو حيث هناك حروب مستمرة، ومرة ​​أخرى يتطلب الأمر تمويلاً يمكننا القيام به ضمن حدود مواردنا: يمكننا مثلاً تمويل خمسة علماء ولكن لا يمكننا تمويل عشرة، ولا بدّ من جمعيّاتٍ محلّيّة للقيام بذلك، من مثل الجمعية الملكية للعلوم في الأردن حيث أخبرتني رئيستُها الأميرة سميّة بوجود برنامج لدعم العلماء في هذا النوع من المواقف الصعبة، وسيكون جيّدًا لو ساهمت جمعيّتكم بالتعاون مع الـ ICTP في دعم العلماء العرب، الذين قد يكونون في ظروفٍ صعبة.

 

رند: هذا السؤال من بعض الزملاء. كيف ترى الفيزياء بعد عشر سنوات وما هو المجال المتوقَّع أن يكون الأكثر نشاطًا في مجال العلوم؟ وما الآثار المتوقَّعة لثورة الذكاء الاصطناعي التي نشهدها الآن على تطور الفيزياء؟ أنت تعلم أن العديد من الطلاب يشكِّكون في فائدة العمل بالعلوم الأساسية ويرون أن الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يحلّ مسائل الفيزياء، لذا هل هناك أي أفكار بهذا الصدد؟

أتيش: لقد ناقشنا بالفعل جزءًا من الإجابة على هذا السؤال. أعتقد أن هناك العديد من الاتّجاهات المثيرة لمسارات العلوم. ننشد مثلاً إجابةً وافيةً عن أسئلةٍ من مثل كيف يمكنُ جعل النسبية العامة متماسكة أو توحيدُها مع ميكانيك الكم، فهو سؤال مهمّ حدثت بالفعل إنجازات ملموسة بشأنه، على سبيل المثال مفهوم الهولوغرافيا مفهوم جميل ورائع، وكذلك مفهوم المثنوية duality، إذ تبيّن في دراستنا لنظريات الحقل الكمومي ونظرية الأوتار أن هناك تقابلًا هولوغرافيًّا ينقلنا من نوعٍ مُعيَّن لنظرية حقلٍ كمومي تتعامل مع جسيمات مشحونة وضوء دون أيّ علاقة على ما يبدو بالثقالة الجاذبيّة إلى نظريّةٍ أخرى مكافئة تُوصِّف الجاذبية، والأمر نفسُه يحدث في المثنوية، حيث يوجد وصفان مختلفان للظاهرة نفسِها. هناك بعض الأسئلة العميقة جدًا والأفكار الجديدة المثيرة جدًا، والتي لم يتم فهمُها بالكامل بعد، وأعتقد أن هناك إمكانيةً كبيرةً للتطرّق إلى جميع أنواع المسائل اللافتة، مثل السؤال عن بنية الكون الموغل في القدم، مع توفّر نتائج رصدٍ كونية جديدة. لا نعرف لغاية الآن ماهيّةَ المادة العاتمة ناهيك عن طبيعة الطاقة المظلمة، لذا من الواضح أنه سيمرّ وقتٌ طويل قبل الإجابة هنا. وبعد ذلك هناك موجات الجاذبيّة التي تمنحنا رؤية جديدة تمامًا للفيزياء. أعتقد أن كل هذه الأسئلة الأساسية، يرافقُها التقدمُ في الرياضيات وفيزياء المادة الكثيفة ونظريّة المعلومات الكمومية جنبًا إلى جنب مع بعض التحدّيات الوجودية الخطيرة حقًا، مثل علوم المناخ التي لا تعبِّر عن أسئلة علمية بمقدار ما تطرح أسئلةً في السياسة الواجب اتّباعُها ما يستلزم فهمًا صحيحًا لأمور علميّة حتى نفهم ما هي تأثيرات أزمة المناخ القادمة بالفعل. لذلك أعتقد أن العلمَ والعلومَ القائمة على البراهين والأدلة، سواء أكانت على المستوى الأساسي أم التطبيقي، سيكون لها دور مهم للغاية في السنوات القادمة. من المؤكّد أن الذكاء الاصطناعي سوف يُسرِّع هذه العمليةَ، ويحلّ بعض المسائل، ويُجري بعض الاستقراءات بسهولة أكبر، لذا سوف يُحدث بالتأكيد ثورةً في الطريقة التي نمارس بها العلوم، ولهذا السبب طرحنا فكرةَ الاتحاد الدولي للحوسبة العلمية. لكنني أنظر إلى الذكاء الاصطناعي كنوع من الأدوات، أعني أنك إذا لاحظت سقوطَ تفاحة عدة مرات وقمت بتغذية تلك البيانات للذكاء الاصطناعي، فلا أعتقد أنك سوف تكتشف نظريةَ النسبية العامة، لكن على سبيل المثال من الممكن اكتشاف قانون الغازات المثاليّة القائل بتناسب جداء الضغط بالحجم مع درجة الحرارة عن طريق الذكاء الاصطناعي وذلك عبر النظر إلى التجارب التي قمنا بها، ولكن ما أدى حقًا إلى التقدّم الأساسي في هذا المجال كان أفكارَ ماكسويل وبولتزمان الخلاّقة في الميكانيك الإحصائي، من أن الغاز يتألّف من مجموعة من الذرّات وأن الحرارة ما هي إلاّ تعبيرٌ عن طاقات هذه الجسيمات، فهذا يتطلب شيئًا من الحدس البشري ذي البصيرة النافذة ولن يتأتّى من مجرّد مواءمة منحنيات. يمكنك بالذكاء الاصطناعي اكتشافُ علاقات جديدة كان من الصعب رؤيتها، وسوف يُحسّن الطريقة التي نفكر بها بالتأكيد، ولكن أن تنتقل من قانون كبلر إلى ميكانيك نيوتن فهذا يتطلب نوعًا من الابتكار والإبداع، وبالمثل فالبحوث التي نقوم بها تكشف عن بنيةٍ تحتيّة عميقة، وأقصد طبقةً من الحقيقة تَختزل في بضع معادلاتٍ ظواهرَ مُعقّدة للغاية، وهذا النوع من الإبداع لن يذهب بل سيبقى مهمًّا لتقدّم العلم.

 

رسم يُظهر ابن الهيثم ممثلاً العقل والمنطق، ويقابله غاليلو غاليلي، الذي يُمثل الحواس. مصدر

 

نضال: كرسالة أخيرة، ما هي النصيحة التي تقدمها للطلاب والباحثين العرب الشباب الذين يرغبون في ممارسة مهنة في مجال الفيزياء النظرية؟ بناءً على خبرتك، ما هي الإجراءات التي يجب على الأشخاص اتخاذها للوصول إلى إمكاناتهم الكاملة والنجاح في هذا المجال؟ كيف يمكن أن نميّز العلماءَ الصادقين الذين اجتهدوا وسط علماء مزيفين يزدهرون في ظل غياب البنية التحتية العلمية المحترمة، كما هو الحال في بعض مناطق العالَم العربي؟

أتيش: نعم، هناك أمر واحد مؤكَّد وهو أنه إذا كان الطلاب شغوفين بالعلوم، فيجب عليهم متابعة ذلك، ومن الأهميّة بمكان وجود زملاء جيدين يُشجّعون بعضَهم بعضًا، كما من الضروري الحصول على الكتب التدريسيّة الملائمة، أذكر أنني وزميلٍ لي -درس بعدَها في كالتيك بينما ذهبتُ إلى برنستون- كان لدينا كتابان ممتازان: محاضرات فاينمان، وكتاب ميكانيك الكمّ لكوهين-تنودجي. بدأنا بناءَ أنفسنا من هذه الكتب التي يجب عليك قراءتُها، وأعي أنْ ليست جميعُ الأماكن توفّر هذه الإمكانيةَ أحيانًا. أؤمن هنا أن هذه هي مُهمّةٌ للـ ICTP، لا نريد أن يكون رامانوجان المستقبَل تحت رحمة القوى الاجتماعية، وهذه النقطة الأولى. النقطة الثانية التي أودّ ذكرها هي أن الحضارة العربيّة كان لها دور كبير جدًا في تاريخ العلوم، وأودّ فعلًا التأكيد على هذا العامل، وقد أصبح عبد السلام لاحقاً في حياته أكثرَ وعياً لهذا الأمر. ليس لديّ شك في أن تاريخ العلوم قد تم إسقاطُه نوعاً ما من وجهة نظر مركزية أوروبية، وفي بعض الأحيان يعطي ذلك شعورًا كما لو أنه لم تحدث أي مُساهمة كبيرة من العالَم العربي أو الهندي. لكن إذا نظرت إلى التاريخ الفعلي جدّيًّا، تجد أن الحسن بن الهيثم حوالي عام 1000م قد وضع في كتابه الشهير "كتاب المناظر" في البصريات أساسَ المنهج العلمي بالفعل، فلقد فهم العديدَ من خصائص البصريات والرؤية، وفهم مبدأ الزمن الأقصر، والذي سُمّي فيما بعد بمبدأ فيرما. لقد بيّن كيف ينتقل الضوء، واستنتج بالتجربة خصائصَ متنوّعةً للضوء نعتبرها الآن أمرًا مفروغًا منه. أو إذا نظرت إلى الخوارزمي الذي عاش في بغداد في القرن التاسع الميلادي، وكان عالما في الفلك والرياضيات، وكتب كتابَه الشهير "الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة"، حيث اشتُقَّت من كلمة "الجبر" كلمة "algebra"، فإن الفكرةَ التي نتعلمها في المدرسة وأقوم بتعليمها لابني في موازنة المعادلات والتعامل مع المعادلات الجبرية هي فكرة أساسية جدًا بدأت في العالَم العربي. لذلك، هناك تقليد تاريخي علميّ في هذه المنطقة ضاع لأسباب مختلفة، منها – كما في الهند- الاستعمار. لقد تمّ في الهند على سبيل المثال اكتشافُ العديد من التطوّرات مثل حساب التفاضل والتكامل، وبعض الخواصّ الأساسية جدًا في المتسلسلات اللانهائية، قبل مئتي عام تقريبًا من نيوتن بواسطة مدرسة مادهافا في كيرالا. أعتقد أنه من المهم للطلاب العرب والطلاب الهنود أن يكونوا على دراية بهذا التقليد التاريخي، ولا يعني ذلك أن تتجاهل التقدّم الذي تمّ إحرازه في أوروبا، بل أن تكون واثقًا بأن العلمَ هو حقًا تراثٌ مشترك للبشرية جمعاء، وليس امتيازًا لرجل أبيض يجلس في مكان ما في بلد أوروبي. لقد ذكرتُ ابن الهيثم والخوارزمي من العالَم العربي، وهناك براهماجوبتا من الهند، وكان هؤلاء علماءَ رياضيات من درجةٍ مرموقة جدًا على مستوى أويلر أو نيوتن، ولكنهم ليسوا معروفين بما فيه الكفاية حتى للأشخاص الذين يعيشون في بلادهم. كما ذكرتُ، يتعلق هذا الأمر في جزءٍ منه بالإرث الاستعماري للخمسمئة عام الماضية، وأعتقد أن الوعي والثقة مهمّان في استعادة أهمية العلم في المجتمعَين العربي والهندي.

 

صفحة من كتاب الجبر للخوارزمي. مصدر

 

نضال: حسنًا، اسمح لي حول هذه النقطة المهمّة أن أذكر أن مجلّتنا تنوي نشرَ مقالاتٍ عن تاريخ العلم عند العرب. في الختام، أنا ورند ممتنّان للغاية لكم لأنكم خصصتم لنا هذه المقابلة الرائعة، شكرًا جزيلاً.

أتيش: شكرًا لك. كان من دواعي سروري التحدث معكما.

 

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/5/53/Abdus_Salam_1987.jpg/220px-Abdus_Salam_1987.jpg

العالِم الباكستاني عبد السلام، الحائز جائزة نوبل 1979 في الفيزياء عن عمله في توحيد القوى. مصدر

 

 

أخبار ومعلومات إثرائية

 

·       معلومة إثرائيّة: هل تعلم؟!

أن نظريّة أوستروغرادسكي التي تربط بين التكامل الحجمي لتباعد حقل متّجهي والتكامل على سطح يحدّ الحجم السابق لتدفّق الحقل نفسِه وفق السطح، أو نظريّة ستوك التي تربط بين التكامل السطحي لدوّار حقلٍ متّجهي مع جريان هذا الحقل على طول مسارٍ مغلَق يحدّ السطح، وحتى النظريّة الأساسيّة في التحليل القائلة بأن التكامل معاكس للاشتقاق ، يمكن اعتبارُها حالات خاصّة من نظرية تقول بمساواةِ مُكاملةِ تفاضلِ شكلٍ تفاضلي f على متنوّع (منطوٍ manifold) M لتكامل هذا الشكل التفاضلي على حدود المتنوّع، وكأن رمز المفاضلة d قد انتقل من الشكل التفاضلي إلى المتنوِّع . مرجع

 

 

·        خبر علمي: صدور صورة ثانية ذات دقة أعلى للثقب الأسود فائق الكتلة M87*

أصدر فريق مقراب الأفق الأوروبي (EHT) صورة جديدة للثقب الأسود M87* بمناسبة مرور خمس سنين على إصدار الصورة الأولى للثقب نفسه. تنسجم الصورتان السابقة (اليسار) واللاحقة (اليمين) مع بعضهما، حيث تظهر كلتاهما مركزًا مظلمًا مُحاطًا بهالةٍ مشعة، انتقل جزؤها الأكثر سطوعًا -مع ذلك- باتجاه عقارب الساعة بزاوية 30 درجة. مرجع

·        خبر علمي: مُصوِّرة (كاميرا) كومبتون تقيس استقطاب أشعة غاما في تجربةِ فيزياء نووية

تمّ استخدام كاميرا كومبتون لقياس استقطاب أشعة غاما في تجربة فيزياء نووية. قام بهذا البحث فريقٌ بقيادة شينتارو غو يعمل في عنقوديّة ريكِن للبحوث الرائدة في اليابان، حيث يمكن للنهج الجديد المُتَّبَع أن يساعد الفيزيائيين على استكشاف هيكل النواة الذرية بتفاصيل أدقّ بكثير ممّا سبق.

كحال الإلكترونات، توجد نكلونات النواة (بروتونات ونترونات) في مستويات طاقيّة عديدة، يمكن عبر انتقالها بينها إصدارُ أشعة غامّا. عن طريق قياس استقطاب الأشعة الغاما المنبعثة، يمكن لها تحديد تدويم (سبينspin) النواة وشفعيّتها (زوجيّتهاparity ). ومع ذلك، فإن إجراء قياسات دقيقة لاستقطاب الأشعة الغاما ليس أمرًا سهلاً.

طوّر مؤخرًا تادايوكي تاكاهاشي وزملاؤه في جامعة طوكيو تصاميم لكاميرا كومبتون متعدّدة الطبقات لتحقيق قياسات عالية الجودة، حيث تتألّف الكاميرا من طبقتَين على الأقلّ (كادميوم-تيلوريد)، حيث تقوم الأولى ببعثرة أشعة غاما بشكلٍ غير مرن (تبعثر كومبتون)، بينما تمتصّها الثانية، ومن خلال تحليل مواضع هذَين النوعَين من الأحداث يمكن تتبّع مصدر فوتونات غامّا إلى دائرة في الفضاء، وهكذا من خلال قياسات عديدة ومقاطعة هذه الدوائر يمكن تحديد مصدر أشعة غامّا، ولذلك لعبت كاميرا كومبتون دوراً كبيرًا من تحديد مواقع النجوم. ما اختبره غو في تجربته هو اعتماد زاوية انحراف الفوتون في تبعثر كومبتون على استقطابِه، وبالتالي من خلال قياسات عديدة لهذه الزوايا يمكن تحديد الاستقطاب، وقد توافقت قياسات الكاميرا مع النتائج النظريّة المتوقَّعة في حالاتٍ معروفة، ما يُعطي الكاميرا موثوقيّةً لاستخدامها في تجارب أخرى. مرجع

 

·        معلومة إثرائيّة: دالة زيتا لريمان أو دالة زيتا لأويلر-ريمان

متسلسلة ريمان المُعرَّفة بالشكل متقاربة (متباعدة) من أجل (). هذه معلومة معروفة لطلاّب السنة الأولى الجامعيّة، وقد يُطلَب منهم حساب المجموع المتقارِب في حالات خاصّة، ولكن أويلر في القرن الثامن عشر كان أوّل من حسب المجموع ، وعمّم ذلك إلى باستخدام أعداد برنولي التي يمكن حسابُها تدريجيًّا. لم ينجح في حساب ، ولكنه أورد علاقة بين الدالّة والأعداد الأوّليّة حيث مجموعة الأعداد الأوّليّة.

قام ريمان في القرن التاسع عشر بتطبيق خواصّ التحليل العقدي من أجل تمديد تعريف هذه الدالّة ζ(s) على الساحة العقديّة (s=σ+it∈ℂ)، مبتدئًا من التعريف أعلاه كمتسلسلة متقاربة بالإطلاق من أجل Re(s)=σ>1، فتغدو الدالّة ζ(s) دالّة ميرومورفيّةً لها قطب بسيط عند s=1، بينما تكون تحليليّةً فيما خلا ذلك. ثم أوجدَ علاقة تحقّقها الدالّة ، حيث Γ(s) دالّة غاما التي تمدّد عقديًّا دالّة العامليّ ()، فيتبيّن هنا الدور الخاصّ الذي يلعبه المستقيم حيث ترتبط القيم التي على يمينه بتلك التي تُناظِرها على يساره. كما ربَط بينها وبين π(x) (عدد الأعداد الأوّليّة المساوية لـ x أو أصغر منه) من خلال العلاقة ما سمح ببرهان خاصيّة تخلخل الأعداد الأوّليّة مع كبرها، حيث .

بيَّن ريمان كذلك ألاّ أصفار للدالّة من أجل σ≥1، وبالتالي أصفار الدالّة زيتا -بعيدًا عن أصفار الجيب البديهيّة ()- يجب أن تكون في النطاق ، وقدَّم ريمان مُخمّنتَه الشهيرة القائلة بتموضع أصفار الدالّة على المستقيم . لا زالت هذه المخمَّنة موضعَ بحث منذئذ دون أن يتمكن الرياضيّاتيون من برهان صحّتها أو خطئِها، وهي إحدى المسائل التي طرحها هِلبرت كتحدٍّ لرياضيّي القرن العشرين، وغدت المسألة الأولى التي تتحدّى رياضيّي القرن اللاحِق، ومن يفعلها تنتظره جائزة مليون دولار من معهد كلاي.

على الرغم من أن متسلسلة مجموع جميع الأعداد الطبيعيّة متباعدة: ،

إلاّ أنه بالتمديد التحليلي نجد أن ζ(-1)=-1/12، وبالتالي لو استبدلنا وبسذاجة -1 بـ s في العبارة التعريفيّة لاضطررنا لاستنتاج: !.

حقيقةُ أنّ هذا المجموع منتهٍ وسالبٌ هي أمرٌ مخالفٌ للحدس، ولكنه يعبِّر عن تقنية مُستخدَمة في الفيزياء تُدعى باستنظام زيتا zeta regularization، حيث نصل مثلاً عند إيجاد عدد الأبعاد التي تعيش فيها الأوتار البوزونية إلى المعادلة التالية (d هو عدد أبعاد الزمكان):

ومن هنا تأتي الأبعاد الـ 26 الموافقة للنسخ الباكرة من نظرية الأوتار البوزونيّة.

هناك تطبيق آخر لدالّة ريمان-زيتا يكمن في حساب أثر كازيمير عندما يظهر المجموع نفسُه ولكن عند والذي يعطي عند التمديد التحليلي القيمة ممّا يسمح بتبيان تناسب قيمة قوّة كازيمير في واحدة المساحة بين ناقلَين مثاليَّين يحصران الخلاء بينهما عكساً مع المسافة الفاصلة مرفوعة للقوة 4. إن التمديد التحليلي يتسبّب بفقدان مقدارٍ لا متناهٍ للطاقة خارج المنطقة بين اللبوسَين، ولكن هذا المقدار اللامتناهي يتغيّر مع حركة اللبوسَين ممّا يخلق قوّة كازيمير بينهما. مرجع

 

·       معلومة إثرائية: القوى الرئيسيّة الأربع

تمكن العلماء خلال المئة السنة الأخيرة من جمع دلالات تشير إلى أن التأثيرات المتبادلة بين مختلف الأشياء التي نراها في حياتنا، وأيّاً كانت طبيعة المواد المتفاعلة، تُردّ إلى تركيبات لأربعة أنواع من القوى هي قوة الثقالة Gravitational force والقوة الكهرمغناطيسية Electromagnetic force والقوة النووية الضعيفة Weak nuclear force والقوة النووية الشديدة Strong nuclear force.

تعدّ قوة الثقالة الأكثر شيوعاً بين هذه القوى، فهي المسؤولة عن بقاء كوكبنا في مداره حول الشمس، وهي ما يتيح لنا الوقوف وأقدامنا على سطح الأرض، وتنشأ بين أيّ جسيمين لهما كتلة، حيث تُعَدّ كتلة جسم ما مقياساً لقوة الثقالة التي يؤثر بها هذا الجسم أو يتأثر بها في تعامله مع أجسام أخرى، أمّا الجسيم المسؤول عن نقلها فهو الغرافيتون (الجذبون Graviton) الذي لم يتمّ بَعْد التحقّقُ من وجوده كجسيم. يلي هذه القوةَ شيوعاً وانتشاراً القوةُ الكهرمغناطيسية التي يرجع إليها الفضل في تمتعنا بمنجزات الكشوف الحديثة المتضمّنة للكهرباء، وتغطي شدة هذه القوة طيفاً واسعاً يغلب دومًا مثيلتها الثقاليّة وبمراتب، فهي في الأثر الهائل للعواصف الرعدية كما هي في الأثر اللطيف لمداعبةٍ باليد؛ تقوم الشحنة الكهربائية التي يحملها جسم ما، في هذه القوة، بالدور ذاته الذي تقوم به كتلة هذا الجسم بالنسبة لقوة (الثقالة)، فهي تدل على شدة التأثير الكهرمغناطيسي الذي يتبادله مع أجسام أخرى، أمّا حاملُها فهو الفوتون كمّة الضوء.

بالنسبة للقوّتَين الأساسيّتَين الأُخريَين فلا يُحَسُّ بهما في حياتنا اليومية لأن مداهما لا يتعدى الأبعاد الذرّيّة، وهما أقوى بكثير من القوتَين الأُخريَين ذواتَي المدى اللانهائي. أولاهما -القوة النووية الضعيفة- مسؤولة عن تحلُّل decay الجسيمات أكثر من ظهورها كقوّة جاذبة أو دافعة، وتؤثِّر في الكواركات واللبتونات، وتشمل حواملُها بوزونات W+,W-,Z. أمّا ثانيهما -القوة النووية الشديدة- فتؤثِّر في الكواركات، وتحملها جسيمات افتراضيّة تُسمّى بالغليّونات (غريونات gluons).

تُفسَّر جميعُ القوى المحسوسة في الطبيعة من ناحية المبدأ اعتماداً على هذه القوى الأربع، فهناك أبحاث كثيرة حول إمكانيّة اشتقاق الكمون النووي بين النكليونات (مكوّنات النوى) انطلاقاً من القوى النووية الشديدة، وبالتالي إمكانيّة تفسير بنية الهادرونات hadrons والميزونات mesons وكتلها. أمّا بنية الذرّات الإلكترونيّة وقوى فاندِرفالس Van der Waals forces بين الجزيئات فهي قائمةٌ أساساً على القوى الكهرمغناطيسيّة، كما أن نموذج هايزنبرغ الذي يقترح آليةً لتفاعل التبادل exchange interaction المسؤول عن الاتجاه المتماثل للقطبانيّات في المغانِط يعزو هذا الأثر إلى قوى الحقل الكهرساكن المتولِّد عن البنية البلّوريّة في المادة الُمُمَغنَطة. مرجع

 

·        خبر علمي: اكتشاف مجرات جديدة بالذكاء الاصطناعي

في تعاون فريد بين علماء الفلك والذكاء الاصطناعي، استطاع علماء الفلك بالتعاون مع فلكيّين هواة مشاركين في مشروعٍ لعلوم المواطِن يُسمّى بـ "التطواف عبر المجرّات" "GALAXY CRUISE" وباستخدام الذكاء الاصطناعي اكتشاف حوالي 400,000 مجرة حلزونية و30,000 مجرة حلقية في البيانات المأخوذة من مقراب سوبارو. يُعدّ هذا البحثُ الأولَ من نوعه في اعتماد بيانات التصنيف من مشروعٍ لعلوم المواطن، مؤكدًا على الدور الهام للتعاون البشري والذكاء الاصطناعي في تعميق فهمنا للكون. توصّل الفريق إلى أن المجرات الحلقية تظهر خصائص وسطية بين الحلزونية والإهليلجية، ما يطابق أحدث نتائج المحاكاة بالحواسيب الفائقة الحديثة.

في الصورة المرفقة مجرّات حلقيّة، يُفيد الصفّ الأول في التدريب على الكشف، ما أدّى إلى الكشف عن المجرّات في الصفوف المتبقيّة. مرجع

Citizen astronomers and AI discover 30,000 ring galaxies

 

·        خبر علمي: تالاغران، مُروِّض العشوائيّات

 

فاز الرياضياتي ميشيل تالاغران بجائزة آبِل -التي يعتبرِها البعض مع جائزة فيلد كما لو كانتا جائزة نوبل في الرياضيات- لعام 2024 تقديرًا لأبحاثه المتميزة في نظرية الاحتمالات وتحليله العميق للعشوائية. يُعَدّ تالاغران، الذي يعمل في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS)، رائدًا في دراسة النظم العشوائية، وقد أسهم بشكل كبير في فهم الحالات الحدّيّة لهذه النظم من خلال تقنيّات رياضية تتحول معها إلى مسائل هندسية. أحدثت معادلات/متراجحات تالاغران، التي تصف النظم العشوائية المتمتّعة بدرجة من التنبؤ، ثورة في الفهم الرياضي للمبدأ الإحصائي المعروف بتركيز القياسات. علاوةٍ على ذلك، تجد أعمالُه تطبيقاً كبيرا في نُظمٍ عشوائيّة فيزيائيّة مثل الزجاجيّات التدويميّة (spin glasses)، وهي تشكيلات مغناطيسيّة غير اعتياديّة حيث تَعمَل ذرّات المادّة كما لو كانت مغانط صغيرة تأخذ اتّجاهاتٍ عشوائيّةً دون أي ترتيب ظاهِر. برهن تالاغراند رياضيًّا بعض الصيغ الرياضيّة التي قدّمها باريزي (جائزة نوبل 2021) لتوصيف هذه المواد وبقيت دون برهان لحين أعمال تالاغراند. مرجع

 

·        خبر علمي: فك شيفرة تخليق الألماس فائق الصلابة

في إنجاز علمي لافت، تمكن الباحثون من مخبر لورنس ليفرمور الوطني ومن جامعة فلوريدا الجنوبيّة من فك شيفرة تخليق الألماس فائق الصلابة ذي البنية البلّوريّة المكعّبيّة مركزيّة الجسم ثمانيّة الوجوه BC8، والذي يُعَدّ أكثر صلابةً من الألماس الطبيعي ويُعتقَد بوجوده في بعض الكواكب الغريبة مع فشلنا لغاية اليوم في صنعه على كوكبنا، عبر اختبار الطرق الممكنة في مخطّط الطور للألماس في مستوي الضغط والحرارة، فلم يجدوا إلاّ عددًا قليلاً يؤدّي لـ BC8. يفتح هذا الاكتشاف آفاقاً جديدة في مجال المواد الفائقة الصلابة التي يمكن استخدامها في تطبيقات عدة، مثل الصناعات التكنولوجية المتقدمة وأدوات القطع الصناعية وحماية الأجهزة. سمحت الدراساتُ التي أجريت من خلال الحاسوب Frontier العملاق -عبر تنفيذ ملايينَ من إجرائيّات محاكاةٍ لعملياتٍ ديناميكيّة ذريّة و/أوجزيئيّة- بتحليل البنية الذرية للألماس وفهم الظروف المثالية لتخليق نسخة فائقة الصلابة منه، ممّا يفسِّر عدمَ نجاحنا تجريبيّاً في تصنيعِها ويمهّد الطريق ربّما لإنتاجها على نطاق واسع في المستقبل. يمكن أن يؤدي هذا التطور إلى تحسين كبير في المواد المستخدمة في العديد من القطاعات ويعزز من إمكانيات البحث العلمي في مجال الفيزياء والكيمياء. مرجع

Synthesis Pathways for BC8 “Super Diamond”

 

·        خبر علمي: كسوف الشمس الكلي ليوم الإثنين 8-أبريل/نيسان-2024

يشهد العالم كسوفًا كليا للشمس يوم الإثنين 8 نيسان/أبريل 2024، وهذا الكسوف الكلي يشاهد من المكسيك وأمريكا الشمالية، ولا يرى من المنطقة العربية، حيث سيقوم قرص القمر بالمرور أمام قرص الشمس فيحجبه ولفترة محدودة، وتظلم السماء كما في الفجر أو الغسق، حيث تختلف نسبة الحجب بحسب الموقع الجغرافي على الأرض. وسيكون أولُ كسوف كبير للشمس منذ عام 2017 مرئيا من المكسيك و15 ولاية أمريكية وجنوب شرق كندا. بالنسبة للمنطقة العربية، سيحدث أول كسوف شمسي كلي يوم  الاثنين الموافق 2 أغسطس/آب 2027 ويشمل الدول التالية: مصر، السعودية، الجزائر، ليبيا، السودان، تونس، اليمن.

https://cdn.mos.cms.futurecdn.net/s2v4tXrwMRbdgjfz5aGF2Q.jpg')}}

Image credit: GreatAmerianEclipse.com

 

 

مسألةٌ للطلاب

نهدف في هذه الزاوية إلى تدريب طلاّبنا على حلّ بعض المسائل التي تتطلّب بعض التفكير. نختار عادةً مثل هذه المسائل من الأسئلة التي تُلقى في المسابقات (ومنها مسابقات الأولمبيادات الدوليّة). في كلّ عدد، سوف نعرض حلّاً لمسألة عُرضت في العدد السابق ونقدِّم مسألة جديدة.

مسألة غير محلولة

(فيزياء، منهاج سنة ثانية جامعة)

يدور طفل على حقل جليدي حول منزلٍ شكلُه مثلث متساوي الأضلاع بضلع 2a. ما هو الزمن الأقصر لدورة واحدة حول المنزل بافتراض مسار أمثلي، وأن معامل الاحتكاك بين الطفل والجليد ثابت 𝛍 (تسارع الثقالة g

 

مسألة محلولة

(فيزياء، نسبيّة خاصّة، منهاج سنة أولى جامعة)

تُطلق مركبة -مسارُها مستقيم وبتسارع ثابت g (كما يشعر به مسافر على متنها)- صاروخَين بسرعتَين V و 2V (بالنسبة للمسافر) على الترتيب. احسب الفارق الزمني في مرجع المركبة (أي بالنسبة للمسافر) بين لحظتَي بلوغ المركبة الصاروخَين.

الحل:

نرمز بـ τ (t) للزمن الصرف الفعلي (المرصود) كما يقيسه مسافر المركبة (المراقِب على الأرض)، وبـ S(τ) للمرجع اللحظي السكوني المنطبق مع المركبة عند τ، فيكون S0=S(0) المرجع عند إطلاقها للصاروخَين، ونرمز بـv(τ) لسرعة المركبة بالنسبة لـ S0. نفرض c=1. (معاني الرموز: / بالنسبة لـ، يساوي تعريفًا، ο تركيب)

طريقة أولى:

(سرعة المركبة عند τ+d τ / S0) [v(τ+dτ)≡ ]= (سرعة المركبة عند τ+dτ / S(τ)) [ gdτ من تعريف التسارع ] ο

(سرعة S(τ) / S0) [v(τ)≡]، إذن .

(سرعة الصاروخ / S(τ)) = (سرعة الصاروخ / S0) ο (سرعة S0 /S(τ)) = V ο (-v)

يقطع الصاروخ بالنسبة للمسافر مسافة: وبالتالي ملاقاة الصاروخ (s(τ)=0) تعني ، أي والفارق الزمني بالنسبة للمسافر إذن

طريقة ثانية:

تسارع المركبة / S0 [ a] = (تسارع المركبة / S(τ)) [ g] ο (S(τ)/S0) إذن حسب تركيب التسارعات:

أي

في S0، يحقق الصاروخ المُنطلق بسرعة V العلاقة: ، وبالتالي الملاقاة تحدث عندما . يبقى أن نحسب العلاقة بين t وτ

، والفارِق الزمني يغدو: ، أي ، وهذا يساوي ما وجدناه في الطريقة الأولى (تحقّق من ذلك).

 

 

 

نشاط علمي:

 

تهدف المدرسة الصيفية الثانية للفيزياء المتقدمة، التي تنظمها الجمعية الفيزيائية العربية (ArPS) بالتعاون مع مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، إلى توفير فرصة للطلاب خلال مدة أسبوع، من 25 إلى 29 أغسطس/آب 2024، من أجل تعميق المفاهيم الفيزيائيّة واستكشاف موضوعات الأبحاث المتقدّمة. المدرسة مُوجَّهة لخريجي الدرجة الأولى (البكالوريوس) الجدد في الفيزياء، وطلاب الدراسات العليا، وباحثي ما بعد الدكتوراه، والباحثين الشباب في بداية حياتهم المهنية المتحمسين لتعلّم مواضيع متقدّمة في الفيزياء. سيتم إلقاء المحاضرات باللغتين الإنجليزية والعربية، وسيحصل المشاركون الناجحون على شهادات تقديريّة. مكان انعقاد المدرسة الصيفية هو الحرم الجامعي بمدينة زويل.

هناك مقرّرات أساسيّة لجميع الطلاب وأخرى تخصّصيّة تجري في عدّة قاعات على التوازي.

تتضمّن المقرّرات الأساسيّة مواضيعَ: ميكانيكا الكم المتقدمة، الكهرومغناطيسية المتقدمة ونظرية الحقل الكلاسيكي، الميكانيكا الإحصائية المتقدمة، الطرق الحسابية في الفيزياء، فيزياء المادة المكثفة،

أمّا المقرّرات التخصّصيّة فتشمل: نظرية الحقول الكموميّة، النسبية العامة وعلم الكونيات، فيزياء البلازما وتطبيقاتها، الفيزياء الحيوية، المعلومات والحوسبة الكمومية، فيزياء الليزر وتطبيقاته.

 

انتهز الفرصة وسارع للتسجيل

 

 

 

 

 

 

استعراضٌ لكتاب

ميكانيك الكمّ الحديث Modern Quantum Mechanics

 

 

 

 

إصدار 2020 إصدار 1994

 

 

كتاب دراسي مرجعيّ، يُعرَف غالباً بكتاب ساكوراي، قام في الأصل بتحريره سان فو توان من جامعة هاواي بالتعاون والمشورة من عدد من الفيزيائيين الآخرين عام 1985، إذ توفي الفيزيائي النظري الشهير يون جون ساكوراي عام 1982 في مختبر السيرن قبل أن يتمكّن من إنهاء مخطوطة غير مكتملة لكتابٍ مدرسي عن ميكانيكا الكم مصمم لطلاب السنة الأولى من الدراسات العليا في الفيزياء، الذين استوعبوا أساسيّات ميكانيك الكمّ الموجي في دراستهم الأولى. نشرت دور بنجامين كامينغز الطبعة الأولى، ثم طُبعت نسخة منقّحة من قبل أديسون ويسلي عام 1994، قبل أن يقوم جيم نابوليتانو من جامعة تيمبل -الحائز جائزة الـ Breakthrough في العلوم الأساسيّة 2016- بتحديث الكتاب لتصدر الطبعة الثانية عام 2010، وأعيد إصدارُها ككتاب إلكتروني من قبل جامعة كامبريدج، التي أصدرت طبعة ثالثة في عام 2020.

تمثّل هدفُ ساكوراي في تأليف كتابٍ آخر في مجال ميكانيك الكمّ في تقديم "عرض واضِح يركّز على المفاهيم الأساسيّة"، مع الاهتمام بالتطوّرات التجريبيّة أو النظريّة الحديثة من أمثال مقياس التداخل النتروني وتكامل المسارات لفاينمان ومتراجحات بيل. يضمّ الكتاب في طبعته الثالثة ثمانية فصول مع ستة ملاحق، حيث يعرض الفصل الأول والثاني المفاهيمَ الأساسيّة والديناميك الكمومي على الترتيب، ثم ينتقل في الفصل الثالث إلى مناقشة نظريّة الزخم الزاوي، ويقدِم في الفصلَين الرابع والخامس مبادئ التناظر والطرق التقريبيّة في ميكانيك الكمّ، ثم تأتي تظرية التبعثر في الفصل السادس، تليها مقدّمة للميكانيك الإحصائي من خلال مناقشة الجسيمات المتماثلة في الفصل السابع، وينتهي الكتاب بمقدّمة إلى ميكانيك الكمّ النسبوي في الفصل الثامن. أمّا الملاحِق فيمكن اعتبارُها مراجع يمكن العودة لها عند الحاجة تتضمّن الواحدات الكهرمغناطيسيّة، وحلول معادلة شرودينغر الموجيّة، والتابع الهاملتوني لشحنةٍ ضمن حقل كهرمغناطيسي، وبعض البراهين التقنيّة في الزخم الزاوي وكيفيّة إيجاد معاملات كليبش-غوردان، وأخيرًا موجَزًا في التحليل العقدي.

ينجح الكتاب بشكل لافت في أهدافه، ويبدو هذا جليّاً في فصولِه الأولى، فبعد مناقشة وجيزة لتجربة شتيرن-غيرلاك لأغراض مفاهيميّة، ينتقل ساكوراي مباشرة إلى صياغة فضاء هلبرت المجرّدة لميكانيك الكم باستخدام تدوين ديراك (رمزا البرا |> والكِت <| المشتقان من كلمة bracket)، وتُقدَّم مناقشة مُرضية جدًا للتحويلات الواحديّة وصور ميكانيك الكمّ (شرودينغر إزاء هايزنبِرغ، ولاحقًا صورة ديراك عند إدخال التآثرات). ويستمرّ وضوح العرض في الفصول اللاحقة، حيث تورَد خواصّ الزمرتَين SU(2) وSU(3) بشكلٍ طبيعي عند مناقشة الدورانات ونظريّة الزخم الزاوي، بينما يخصَّص قسمٌ كبير من المناقشة -عند دراسة مبادئ التناظر- للتناظرات المتقطّعة عن الشفعيّة وقرن الشحنة وقلب الزمن. يتمّ تقديم متسلسلة دايسون لتوضيح نظريّة الاضطراب المعتمدة على الزمن، بينما تُعرَض معادلة ليبمان-شفينغِر مع تقريب بورن بشكلٍ واضِح أثناء مناقشة التبعثر. وأخيرًا هناك أيضًا تحليلٌ لنظريّة دالّيّ الكثافة DFT والاستكمام الثاني، تلحقها معادلات كلاين-غوردون وديراك. من المتوقَّع أن يكون القارئ على دراية بحلول معادلة شرودينغر الموجيّة في سياقات مختلفة، ولكن ساكوراي يستخدم تكرارًا أمثلةَ فيزيائيّةً ملموسة ويقصر الرياضيات على "الصياغة والشكل" دون "التجرّد والصرامة"، ويتبع كلّ فصل بمجموعة كبيرة من المسائل المختارة بعناية.

بالرغم من غياب بعض المواضيع المهمّة مثل تكمية الحقل الكهرمغناطيسي، وجداول يونغ في الطبعة الأحدث (موجودة في الإصدار الأوّل والمُنقَّح)، يقوم هذا الكتاب المدرسي بعمل ممتاز في معالجة أساسيات ميكانيكا الكمّ بشكلٍ شامل وموثوق ولكن مُختصَر وبعيدٍ عن الحشو، ما يجعله مناسبًا للطلاب وبشكل خاص للذين يرغبون في المشاركة في الأبحاث التجريبية والنظرية المتطورة.

 

 

خبر علمي:

·        الحوسبة الكمومية والضجيج:

يعمل العلماء في جميع أنحاء العالم بجدّ لتنقية النظم الكمومية من الضجيج -ولا نعني بذلك ضجيجًا صوتيًّا بالمعنى الحرفي للكلمة بل أيّ اضطراب يطرأ على المنظومة مثل تراوحات كموميّة كهرمغناطيسيّة- الذي يحدّ من وظائف الأجهزة الكموميّة القوية المتوقَّعة في المستقبل. ولكن بخلاف ذلك، أوجد فريقُ تعاونٍ دوليّ يقوده باحثون من معهد نيلز بوهر (NBI) نهجًا بديلًا وذلك باستخدام الضجيج من أجل معالجة المعلومات الكموميّة، ممّا يزيد من أداء الوحدة الأساسية في الحوسبة الكموميّة، وهي الكيوبت، بنسبة 700٪، ونُشرت هذه النتائج في مجلة Nature Communications.

"في الحقيقة، من المُحال تجنّب الضجيج في النظم الكموميّة، لأن أيّ تغيير في البيئة المُحيطة -كأن تتغيّر بشكلٍ طفيف قيم الحقول الكهربائيّة والمغناطيسيّة المُكتنفة- يمكن أن يُفسد الأمور". يُكمل فابريزيو بيريتا أحد أعضاء الفريق قائلا: "تكمن فكرتنا في مُراقبة الضجيج وتعديل المنظومة وفقًا لتغييرات الضجيج، ولكن ما صار ممكناً الآن ولم يكن ممكنًا سابِقًا هو الحصول على القياسات -باستخدام تقانات صفيف البوّابات القابلة للبرمجة حقليًّا FPGA- والقيام بالتحليل -بمساعدة تعلّم الآلة- في المعالِج الدقيق نفسِه الذي يقوم بتعديل ضبط المنظومة في الزمن الحقيقي، وإلاّ لن تكون منظومة الجهاز سريعةً بما فيه الكفاية من أجل تطبيقات الحوسبة الكموميّة".

على خلاف البِت ذي الحالتَين الممكنتَين يمكن للكيوبِت أن يكون في حالةِ تركيبٍ خطّي لبِتّات، وتزداد المعلومات التي يتضمّنُها بزيادة الخصائص الكموميّة التي نتحكّم بها، وفي حالةِ الدراسة المنشورة يتضمّن الكيوبِت إلكترونَين في حالتَي سبين أحادي S وثلاثي T0 متشابكتَين كموميّاً، وتُعتبَر هذه التقانة واعدة قد تسمح خلال عقدٍ بتحقيقٍ عمليّ لحاسوب كمومي. مرجع

 

Elegant use of noise for quantum computing

يمكن التحكّم بسبينَي إلكترونَي الكيوبِت عبر تغيير تدرّج الحقل الكهرمغناطيسي الذي يتأثّر بالضجيج. يقوم معالِج صغريّ FPGA بقياس الضجيج باستمرار ويقوم بتعديل المنظومة في الزمن الحقيقي.

 

Responsive image