Responsive image
Download as PDF View Full PDF
Responsive image Responsive image
المحتويات
مقدمة رئيس التحرير
(Download PDF) الموصلية الفائقة ومستقبل التقانة
(Download PDF) مقابلة مع الاستاذه مارى بيشاى
(Download PDF) الخلايا الشمسية - طاقة المستقبل النظيفة والمستدامة
(Download PDF) الشوّاش والكسوريّات حيث الفيزياء وجاذِبها العجيب
(Download PDF) الضوء الكمومي واختبار أسس ميكانيك الكمّ
(Download PDF) كتاب: برّاد أنشتاين Einstein’s Fridge

 

 

مقدّمة رئيس التحرير

 

 

يسرّني أن أرحّب بقرّاء العدد الثاني -ربيع 2024- من مجلّة "مسارات في الفيزياء" الصادرة عن الجمعيّة العربيّة للفيزياء، وأتقدّم بجزيل شكري لمن ساهم وساعد في إتمامِه.

مرّت ثلاثة أشهر على افتتاح مجلّتنا، وتباينت ردود الفعل إزاءها، وإن كان أغلبُها إيجابيّا، ونحن لا نزال بانتظار مقترحاتكم حول بنيتِها وطبيعة المواضيع المطروحة والسويّة المطلوبة. انضمّ خلال هذه الفترة أربعةُ باحثين إلى فريق التحرير، ما ساعد في تنظيم وتأطير العمل، وكلّنا أمل بأن هدف المجلّة المنشود سوف يتحقّق مع ازدياد خبرتنا وتفاعلنا مع المشتغلين بالعلْم في مجتمعنا العربي. ����

يركِّز العدد الراهِن على فيزياء النِّترينو، هذا الجسيم التالي للفوتون وفرةً في الكون، والذي لم يتمّ الاستدلال على وجود كتلة غير معدومة له إلاّ منذ ربع قرنٍ بالرغم من اقتراح وجوده قبل تسعة عقود والكشف عنه تجريبيًّا بعد ذلك بعقدَين. تُعَدّ قصةُ البحث عنه ملحمةً من ملاحِم نضال الإنسان في سبيل الكشف عن أسرار الكون، ومع ذلك فحتى الآن لم نستطِع سبرَه مباشرةً ولا قياس كتلته، بل يتمّ الاستدلال على وجوده من خلال مساهمته في قوانين المصونية لا غير، وذلك بسبب تآثراته الضعيفة جدًا.

أجرينا في هذا العددَ مقابلةً مع العالِمة المصريّة-الأمريكيّة ماري بيشاي المتحدّث الرسمي لتجربة الـنترينو عميقًا تحت الأرض DUNE، إحدى أضخم مشاريع التعاون العلمي في العالَم الهادفة إلى الكشف عن النِّترينو وفيزيائه، وهي -حسب اعتقادنا- مقابلة ستُغني القارئَ سواءٌ أكان ذلك في الأفكار الاجتماعيّة التي تضمّنتْها أم في المفاهيم العلميّة التي نوقشت بطريقة بسيطة ولكن عميقة. تمّ اختيارُ المقال الرئيس بشكلٍ متوافق ليقدِّم للقارئ أساسيّات فيزياء النِّترينو، بينما تناولت مقالات ثلاثة أخرى مواضيع الخلايا والطاقة الشمسيّة، والموصّليّة (الناقليّة) الفائقة، والشوّاش مع الكسوريّات. المقال الخامس كتبه باحث شابّ في مجال الضوء الكمومي وعلاقته باختبارات أسس ميكانيك الكمّ، وهي فرصة لأعود وأدعو طلاّبنا الأعزّاء في المرحلة الجامعيّة والدراسات العليا ألاّ يتردّدوا في الكتابة إلينا.

يضمّ العدد كالعادة بابَ أخبارٍ علميّة ركّزت على آخر تطوّرات استكشاف الفضاء، أمّا باب المعلومات الإثرائيّة، المُوجَّهة خصّيصًا لطلاب المرحلة الجامعيّة الأولى أو مرحلة الدراسات العليا، فيتضمّن من بين ما يحويه من معارف شرحًا لظاهرتَين في فيزياء النِّترينو، هما آليّة الأرجوحة لتوليد الكتلة وإشعاع الخلفيّة الكوني النِّترينُوِي، وإعلانًا عن مؤتمرٍ حول النِّترينو والمادة المظلمة سيقام قريبًا في مصر، بالإضافة إلى عرضٍ لكتابَين -واحدهما تبسيطي والآخر أكاديمي-، وإيراد حلِّ مسألةِ العدد السابِق وتقديم مسألة جديدة.

في الختام، أعود وأقدِّم كامِل شكري لكلّ من ساهم بإخراج هذا العدد إلى الضوء، وبانتظار مساهماتكم في عدد صيف-2024 اللاحق.��

�������������������������������������������������������������������� نضال شمعون

 

 

Default Normal Template

النيوترينو :الجسيم الشبح

السيد إبراهيم لاشين، أستاذ فيزياء الطاقة العالية في جامعة عين شمس، مصر

 

أوّلًا) تمهيد عن النيوترينو:

يُعدّ النيوترينو من أكثر الجسيمات الماديّة المعروفة وفرةً في الكون، إذ تفوق أعدادُه جميع الجسيمات الماديّة الأخرى المعروفة وبما يعادل مليارات الأضعاف. النيوترينو متواجد في كلّ مكان، فالشمس مثلًا تقوم بإنتاج النيوترينو بحيث أن مليارات منه تعبر كلَّ سنتمترٍ مربِّع من مساحة أبداننا خلال الثانية الواحدة. ليس هذا الأمر مقصورًا على الشمس وحدها، بل إن جميعَ النجوم تقوم مثل الشمس بإنتاج جسيمات النيوترينو، وإطلاقِها في الفضاء المحيط بها. تقوم الشمس بعملها هذا بدأبٍ منذ ما يقرب من خمسةِ ملياراتٍ من السنين -وهذا هو عمر الشمس- حتى الآن. ليس هذا فحسب، بل توجد نيوترينُوات (نيوترينوهات) هائمة في الكون يعود أصلها إلى الانفجار العظيم الذي تمّ منذ ما يقرب من أربعة عشر مليار سنة وأدّى إلى نشأة الكون. يبلغ الآن عددُ هذه النيوترينُوات التي يعود أصلها إلى الانفجار العظيم ما يقرب من 400/cm3، وهو يعادل تقريبًا عدد فوتونات الخلفيّة الإشعاعيّة الكونية التي انبثقت من الانفجار العظيم.

�������� يتمّ إنتاج النيوترينو أيضاً من خلال تفاعلات الأشعة الكونيّة مع الغلاف الجوّي المحيط بالأرض، فالقشرة الأرضية بصخورها تُنتِج جسيمات نيوترينو من خلال تحلّل العناصر المُشعّة بها، وحتى أبداننا نفسُها تنتج جسيمات نيوترينو من خلال تحلّل النظائر المشعّة في أجسادنا من أمثال الكالسيوم والبوتاسيوم. باختصار، جسيمات النيوترينو موجودةٌ حولنا وفي كلّ مكان وبوفرة، ولو قُدِّر لنا أن نرى بواسطة عيوننا جسيماتِ النيوترينو لأصبح نهارُنا سرمديًّا، فحمدًا لله على ذلك. أيضًا، يجب ألاّ ينتابنا القلق بشأن جسيمات النيوترينو التي تخترق أجسادنا ليلًا ونهارًا، فهي تعبر أجسادنا ولكنها تقريبًا لا تتفاعل معها، لأن تفاعلاتها ضعيفة جدًّا كما سنرى لاحقا. الحياة نفسُها نشأت على الأرض في ظلّ هذا الفيض الغامِر من جسيمات النيوترينو، ولم يلحقها أيّ ضرر. إن تفاعلات جسيمات النيوترينو الضعيفة للغاية تجعلها بمثابة شبحٍ لدرجة أنه لو مرّ نيوترينو في طبقةٍ من الرصاص سمكُها سنة ضوئيّة، فهناك احتماليّةٌ مقدارُها خمسون بالمائة أن يصطدم بشيءٍ ما خلال هذه الرحلة.

 

ثانيًا) النيوترينو من وجهة نظر النموذج القياسي للجسيمات الأوّليّة:

النموذج القياسي للجسيمات الأوّليّة هو النموذج المقبول لوصف الجسيمات الأوّليّة وتفاعلاتها المتبادلة. يحتوي هذا النموذج على اثني عشر جسيمًا أوّليّاً، وتنقسم هذه الجسيمات إلى مجموعتَين من الكواركات واللبتونات. أمّا عن الكواركات فهي تضمّ ستّة أنواع وهي علوي (u) وسفلي (d)، ومسحور (c)، وغريب (s)، وقمّة (t)، وقاع (b)، وكلّها تتفاعل من خلال القوى القويّة والضعيفة والكهرمغناطيسيّة والجاذبيّة (الثقاليّة). لا تحمل أسماء الجسيمات هذه أيَّ معنى وهي فقط تُستخدم لإيجاد لغة مشتركة بين الفيزيائيين. وأمّا عن مجموعة اللبتونات فهي تضمّ أيضًا ستّةَ أنواعٍ كالتالي، الإلكترون (e)ونيوترينو الإلكترون (νe)، الميون (μ) ونيوترينو الميون (νμ)، التاو (τ) ونيوترينو التاو (ντ). اللبتونات عمومًا لا تتفاعل من خلال القوى القويّة، ولكنها تتفاعل فقط من خلال مجال القوى الضعيفة والكهرمغناطيسيّة والجاذبيّة، وتُستثنى النيوترينُوات بأنها لا تتفاعل من خلال مجال القوة الكهرمغناطيسيّة لأنها غير مشحونة -أي متعادلة- كهربائيًّا.

�������� نعود مرة أخرى للكواركات فنجد أنها تترابط فيما بينها بواسطة القوة القويّة لتشكّل البروتونات والنيوترونات، فمثلًا البروتون يتكوّن من ثلاثة كواركات (uud)، بينما يتكوّن النيوترون من ثلاثة كواركات (ddu)، ويجب أن نلاحظ أن الكواركات لها شحنة كسريّة، بمعنى أن شحنة الكوارك العلوي (u) موجبة وتساوي 2/3 من شحنة الإلكترون وشحنة الكوارك السفلي (d) سالبة وتساوي 1/3 شحنة الإلكترون. تشكِّل البروتونات والنيوترونات أنويةَ (أو نَوَى) الذرّات، وبالتالي تشكِّل معظمَ ما نراه من المادّة المستقرّة المرئيّة في الكون. أمّا بالنسبة للّبتونات المشحونة، فأخفّها من حيث الكتلة هو الإلكترون يليه الميون ثم التاو، والشحنة الكهربائيّة سالبة لكلّ من هذه اللبتونات وتساوي شحنة الإلكترون.

�������� وفي سياق النموذج القياسي للجسيمات الأوّليّة، توجد أيضا حامِلات القوى، مثل الفوتون (γ) حامل القوة الكهرمغناطيسيّة، وبوزونات W, Z حامِلات القوى الضعيفة، والجليونات (g) حامِلات القوى القويّة. علاوةً على ذلك، يوجد جسيم هيجز وهو ضروري لكي تكتسب الجسيمات الأوّليّة وبوزونات W, Z كتلَها المرصودة تجريبيّاً. أمّا عن كتل النيوترينُوات فهي تُعتبر عديمة الكتلة تمامًا في سياق النموذج القياسي للجسيمات الأوّليّة. من هنا نجد أن النيوترينوات تُشكِّل من حيث العدد ربعَ الجسيمات الأوّليّة، وإضافةً إلى وفرتِها الهائلة فإنه يتحتّم علينا أن نفهم خواصَّها من أجل فهم طبيعة الكون حولنا.

النموذج القياسي للجسيمات الأوّليّة

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/0/00/Standard_Model_of_Elementary_Particles.svg/360px-Standard_Model_of_Elementary_Particles.svg.png

 

ثالثًا) ظهور واكتشاف النيوترينو

في الواقع إن اكتشاف النيوترينو وسبر خصائصه لهو من أحد أهم الملاحم العظيمة للفيزياء، والتي استمرّت لما يقرب من مائة عام حتى الآن، ومع ذلك لم يتمّ إسدال الستار على الفصل الأخير من هذه الملحمة، فهي لا زالت مستمرّة، وتحمل في طيّاتها الكثير من الأسرار والمفاجآت التي ستكشف عنها السنوات المقبلة.

�������� تعود قصّة ظهور النيوترينو إلى دراسة ظاهرة التحلّل الإشعاعي المصحوب بجسيمات بيتا (β)، وجسيمات بيتا هنا هي مجرّد إلكترونات سالبة الشحنة. في هذا التحلّل الإشعاعي المصحوب بجسيمات بيتا تتحوّل نواة العنصر المُشِعّ A (النواة الأمّ) إلى نواة أخرى B (النواة الابنة أو الوليدة) تحمل نفسَ العدد الكتلي، ولكن العدد الذري يزيد بمقدار الواحد عن ذاك الذي للنواة الأمّ، حيث يمكن التعبير عن التحلّل من خلال التالي A B e. عند دراسة طاقة حركة الإلكترون المنبعث وُجِد أنها تمثِّل طيفًا من القيم المستمرّة تبدأ من صفر وتنتهي إلى طاقةٍ قصوى تعتمد على الفرق الضئيل بين كتلة كلٍّ من النواة الأمّ والابنة، وقد تمّ قياس طيف الطاقة المنبعث للإلكترون على يد العالِم الإنجليزي جيمس تشادويك عام 1914. تُمثِّل هذه النتيجة في حدّ ذاتها كارثةً إذ أن طاقة الإلكترون المنبعث يجب أن تكون قيمةً واحدةً وليس طيفًا متّصلًا من القيم كما يحتِّم بذلك مبدأُ حفظ الطاقة [1] الذي يُعدّ من أحد أهمّ المبادئ في الفيزياء، ويسري على التحلّلات الإشعاعيّة الأخرى المصحوبة بانبعاث أشعة جاما (γ) وجسيمات ألفا (α)، وقد أصبح هذا الأمرُ لغزًا يحتاج إلى تفسير.

undefined

الطيف المتّصل للإلكترون الصادِر في تحلّل بيتا

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/2/2b/RaE1.jpg/330px-RaE1.jpg

 

�������� في عام 1930، قدّم باولي عالِم الفيزياء النمساوي الشهير حلًّا يائسًا لهذه الأزمة بافتراض وجود جسيمٍ ثالثٍ في نواتج التحلّل غيرِ مرئيٍّ، ويشارِك الطاقةَ مع الإلكترون وبالتالي يمكن إنقاذ مبدأ حفظ الطاقة من الانتهاك. هذا الجسيم الافتراضي يجب أن يكون عديمَ الشحنة الكهربائيّة نتيجةً حتميّةً لمبدأ حفظ الشحنة، الذي يُعدّ أيضًا من المبادئ المهمّة في الفيزياء. يمكن الاستدلال أيضًا بسبب الفرق الصغير بين كتلة كلٍّ من النواتَين الأم والابنة ومن قيم الطاقة المرصودة للإلكترون في هذا التحلّل على صغر كتلة هذا الجسيم الافتراضي إلى درجة الانعدام. يمكن الآن التعبير عن التحلّل الإشعاعي كالتالي: A B e ν، حيث (ν) يمثّل الجسيم المتعادل الذي سوف يشارك الإلكترون في الطاقة وبالتالي يتمّ حلّ مشكلة حفظ الطاقة، ويصبح بالإمكان لِطَيف طاقةِ الإلكترون المنبعث أن يكون طيفًا مستمرًّا من الصفر إلى قيمةٍ قصوى معيّنة.

�������� كان باولي يعتقد أن هذا الجسيم المتعادل ν هو أحد مكوّنات النواة، وفي ذلك الوقت لم يكن قد تمّ اكتشاف النيوترون، لكن لاحقًا في عام 1932 تمّ اكتشاف النيوترون على يد جيمس تشادويك الذي قابلناه سابقًا، وتبيّن أن له كتلةً تقارب كتلة البروتون، وبالتالي فإن النيوترون ليس هو الجسيم ذو الكتلة الصغيرة الصفريّة الذي اقترحه باولي.

�������� في عام 1934، يقوم عالِم الفيزياء الإيطالي إنريكو فيرمي بوضع نظريّة للتحلّل الإشعاعي المصحوب بانبعاث جسيمات بيتا. يكمن فحوى النظريّة في أن النيوترون هو الذي يتحلّل إلى بروتون وإلكترون وإلى الجسيم المتعادل الذي افترضه باولي من قبل، بحيث يمكن التعبير عن التحلّل كالتالي:

n p e ν

وفي نظريّة فيرمي يمكن أن تتفاعل الأجسام الأربعة كلّها عند نفس النقطة في المكان ونفس اللحظة الزمنية. يمكن التعبير عن ذلك بالرسم التالي:

تحلّل بيتا وفق نظريّة فيرمي

 

وقد صكّ فيرمي اسمًا لهذا الجسيم المتعادل وأطلق عليه اسم النيوترينو، وهو ما يعني النيوترون الصغير باللغة الإيطاليّة. من نظريّة فيرمي، يمكن حساب شدّة التفاعل وطيف الطاقة للإلكترونات المنبعثة ومقارنتها بالبيانات التجريبيّة. تستلزم هذه المقارنة أن التفاعل المسؤول عن التحلّل الإشعاعي المصحوب بانبعاث جسيمات بيتا يجب أن يكون ضعيفًا للغاية، ودرجة الضعف هذه كانت كفيلة بالقضاء على أيّة آمال بمحاولة اكتشاف النيوترينو لدرجة أنّ باولي عبّر سابِقًا عن هذا الإحباط في عام 1931 بقوله: "لقد ارتكبت شيئًا فظيعًا بافتراض جسيمٍ لا يمكن اكتشافه والإمساك به".

 

رابعًا) النيوترينو والقنبلة النووية، واكتشاف النيوترينُوات

الإمساك بالنيوترينو أمر صعب المنال إلى حدّ بعيد بشكل يدعو إلى اليأس والإحباط. إن تفاعل النيوترينو الضعيف للغاية يجعل الإمساكَ به شيئًا أقرب إلى الاستحالة، ولكن هذه الاستحالة قد تغدو قيد الإمكان إذا تعاملنا مع عددٍ ضخمٍ جدًا بما فيه الكفاية من النيوترينوات. أين يوجد هذا العدد الضخم من النيوترينوات؟ يوجد عند تفجير قنبلة نووية، إذ إن عمليّة الانشطار النووي التي تتمّ أثناء التفجير النووي تؤدّي إلى انبعاث عدد ضخم من النيوترينوات. إذن يمكننا الإمساك بكاشِفٍ للنيوترينوات بالقرب من مكان تفجير قنبلة نووية، وهذا ما فكّر فيه بالفعل العالِمان فريدريك راينز وكليد كووان عام 1953، ولكنهما عدلا عن هذه الفكرة لأن هذه التجربة غير مأمونة، وأيضًا يصعب تكرارُها، ووجدا بعد ذلك أنه من الأنسب والأكثر أمانًا أن يتمّ إجراء التجربة بالقرب من أحد المفاعلات النووية والتي تُدار لأغراض الحصول على الطاقة. يعادل فيضُ النيوترينُوات المتدفّق من المفاعلات 1013 (أي عشرة آلاف مليار نيوترينو)لكل سم2 في كلّ ثانية، وهذا عدد ضخمٌ يُعزِّز فرصةَ الكشف عن النيوترينو.

�������� قد يتساءل المرء كيف نمسك بجسيم النيوترينو وهو متعادل كهربائيّاً وعديم الكتلة، إذ أن أساس عمل الكواشف هو الإمساك بالجسيمات المشحونة كهربائيًّا. من هنا تأتي فكرة الانحلال العكسي لبيتا والذي يمكن التعبير عنه كالتالي:

νe p n e+

حيث يتفاعل جسيم النيوترينو مع البروتون ويؤدي إلى تخليق النيوترون والجسيم المُضادّ للإلكترون e+ (وهو ما يُسمّى بالبوزيترون). يمكن الإمساك بهذا الإلكترون المُضادّ ولكنه لا يلبث طويلًا فبمجرّد أن يصادف إلكترونًا عاديّاً فإن كلّا منهما يفني الآخر ويصدر انبعاث من أشعة جاما. هذه النبضات الضوئيّة يمكن رصدُها باستخدام مُضاعفات ضوئيّة، وبالتالي يكون هذا دليلًا على وجود النيوترينو. نحن لا نرى النيوترينو مباشرة ولكن عند تفاعله مع المادة ينتج لنا اللبتون المشحون المرافِق له وهذا ما نمسك به.

�������� لقد قام كلّ من راينز وكووان بتنفيذ هذه التجربة، وكان الكاشف المُستخدَم عبارة عن كميّة ضخمة من المياه تعادل أربعة آلاف لِتراً من المياه. تُشكِّل أنويةُ الهدروجين في هذا الماء البروتونَ الذي سيتفاعل مع جسيم النيوترينو. بالإضافة لهذا الماء، توجد أيضًا مادّة كلوريد الكادميوم التي تكشف عن وجود النيوترون الخارِج من تفاعل النيوترينو مع المادّة، ويكون هذا مصحوبًا بومضة ضوئيّة. هناك إذن ومضتان من الضوء، واحدة مصحوبة بالإلكترون المُضادّ والأخرى بالنيوترون، ويوجد ترابطٌ زمنيّ مميِّز بينهما. ولا ننسى في هذا الخضمّ أن هذا الكاشِف تمّ وضعُه على عمق اثنَي عشر مترًا تحت الأرض من أجل حجب تأثير الأشعة الكونيّة حتى لا تتداخل تفاعلاتُها مع تفاعل النيوترينو.

�������� بهذه الطريقة، تمّ اكتشاف النيوترينو عام 1956 بواسطة كلّ من راينز وكووان، وقد أبرق كلاهما إلى باولي لإخباره عن اكتشاف الجسيم الذي كان قد افترضه قبل خمسة وعشرين عامًا، فقام باولي بالردّ عليهما بقوله "ينال كلَّ الأشياء من يُحسن الصبرَ والانتظار". لقد نال فريدريك راينز جائزة نوبل عن هذا الاكتشاف عام 1995 أي بعد قرابة أربعين عامًا من الاكتشاف، بينما لم ينل كليد كووان الجائزة لأنه كان قد تُوُفيّ عام 1974 ولم يكن محظوظًا لتطول به الحياة حتى ينال الجائزة.

راينز على اليسار وكووان على اليمين في مركز التحكّم بتجربة الكشف عن النيوترينو

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/5/53/Clyde_Cowan.jpg/330px-Clyde_Cowan.jpg

 

�������� لم يقف الأمر عند هذا الحدّ، فخلال الأعوام التالية بعد عام 1962 تمّ اكتشاف نوع آخر من النيوترينو وهو نيوترينو الميون على يد كلّ من ليدرمان وشوارتز وشتاينبرغر، حيث تمّ منحهم جائزة نوبل عام 1988، وأخيرًا في عام 2000 تمّ اكتشاف النوع الثالث من النيوترينو وهو نيوترينو التاو بواسطة تعاون ضخم من خلال تجربة أُجريت في معمل فيرمي في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.

 

خامسًا) النيوترينو من السماء

����ممّا سبق نرى أن النيوترينو قد تمّ اكتشافه من خلال مصادِر أرضيّة، فلماذا لا نتطلّع إلى السماء كمصدر للنيوترينو مستلهمين قول أمير الشعراء أحمد شوقي:

واطلبوا المجد على الأرض فإنْ�� هِيَ ضاقت فاطلبوه في السماء.

هذا ما فعله بالضبط راموند دافيز ليس بدافع شاعريّ، ولكن بدافع علميّ، فهو يعلم أن الشمس حسب النموذج الشمسي المُعتمَد تُنتِج الطاقة والضياء والحرارة من خلال سلسلة من التفاعلات النووية الاندماجية المعقّدة، والتي تؤدّي أيضًا إلى إنتاج نيوترينو الإلكترون فقط، بمعنى أن الشمس هي مصدر لنيوترينو الإلكترون. ويمكننا حسب هذا النموذج الشمسي المُعتمَد حسابُ فيض النيوترينو المُتوقَّع والذي يبلغ حوالي 1012 لكل سم2 في كلّ ثانية. بدأ راموند دافيز عملَه في أوائل الستّينات من القرن المنصرم بإعداد التجربة في أعماق أحد المناجم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة على بعد حوالي 1.5 كيلومتر تحت الأرض لكي يتجنّب تداخلات الأشعة الكونيّة، وتمّ استخدام مئات الآلاف من ليترات سائل التنظيف كلوريد الكربون الرباعي، موضوعةً في خزّان كبير، كمادّة كاشفة للنيوترينو من خلال تفاعله مع الكلور. وكانت المفاجأة أن عدد تفاعلات النيوترينو التي تمّ رصدُها هي ثلث القيمة المتوقَّعة، وهذا يدلّ على أن عدد النيوترينوات القادمة من الشمس أقلّ ممّا هو متوقَّع حسب النموذج الشمسي المُعتمَد، ولكن راموند دافيز أصرّ على صحّة النموذج الشمسي المُعتمَد بعد إجراء الكثير من المراجعات والتدقيق لهذا النموذج. نحن هنا أمام خيارَين، فإمّا أن يكون النموذج الشمسي المُعتمَد خطأً، بينما يُصِرّ راموند دافيز على صحّته، وإمّا أن يكون هناك خطأٌ ما بالنسبة لفهمنا للنيوترينو. ماذا حدث للنيوترينو خلال رحلته الطويلة من الشمس حتى يصل إلينا على الأرض؟

 

تجربة دافيز ومشكلة النيوترينو الشمسي

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/e/e2/U.S._Department_of_Energy_-_Science_-_390_002_007_%289952118384%29.jpg/330px-U.S._Department_of_Energy_-_Science_-_390_002_007_%289952118384%29.jpg

 

�������� هناك مصدر سماوي آخر للنيوترينو، وهو طبقات الغلاف الجوّي للأرض على ارتفاع ما يقرب من خمسة عشر كيلومترًا. عند هذا الارتفاع، تتفاعل الأشعة الكونيّة -والتي تتكوّن أساسًا من بروتونات- مع الأنوية في الغلاف الجوّي وتؤدّي إلى كثيرٍ من جسيمات البيون المشحونة، حيث يتحلّل البيون إلى ميون ونيوترينو مصاحب له.يتحلّل الميون بدوره إلى إلكترون ونيوترينو الميون ونيوترينو الإلكترون، أي أنه لكلّ نيوترينو إلكترون يوجد اثنان من نيوترينو الميون، وهذا يعني أن نسبة تواجد نيوترينو الميون تبلغ ضعفَ نسبة نيوترينو الإلكترون في فيض النيوترينو الآتي من الغلاف الجوّي. وقد تمّ رصد هذه النيوترينوات بدءًا من منتصف الستّينات في تجارب أُجرِيت في أعماق المناجم كالمعتاد. ما لم يكن معتادًا هذه المرّة هو أن هذه التجارب لم تُجرَ في أوروبا أو أمريكا، ولكنها أُجرَيت في كلّ من الهند وجنوب أفريقيا، وقد وُجِد أن نسبة نيوترينو الميون إلى نيوترينو الإلكترون أقلّ من المتوقَّع، ولكن مع أخذ عوامل الخطأ في الاعتبار يمكن التغاضي عن عدم التوافق هذا، وبالتالي كانت النتيجةُ التجريبيّة المرصودة متوافقةً مع التوقّعات النظريّة.

�������� العامِلُ الحاسم في تأكيد هذا التوافق من عدمه أتى من ناحية غير متوقَّعة، ومن تجارب كانت مُصمَّمة خصّيصًا لاكتشاف تحلّل البروتون اُبتُدئ بتصميمها منذ بدايات الثمانينيّات من القرن المنصرِم. بالرغم من أن هذه التجارب لم تكشف أيّ أثرٍ لتحلّل البروتون، ولكنها استطاعت الكشف عن النيوترينُوات الجوّيّة، وذلك لأن الكشف عن الجسيمات الناتجة عن تحلّل البروتون هو نفسه يشابه الكشف عن الجسيمات الناشئة عن تفاعل النيوترينو مع المادّة. لقد أكّدت هذه التجارب أن فيض نيوترينو الميون أقلّ من المتوقّع ويساوي فيض نيوترينو الإلكترون وليس ضعفَه كما هو متوقَّع. تمّ ذلك في عام 1986 من خلال إحدى التجارب التي أُجريَت في اليابان وتُسمّى تجربة كاميوكاندي. وكالمعتاد، نُصِّبت التجربة في أعماق أحد المناجم هناك في اليابان، وكان جهازُ الكشف عبارةً عن خزّان مياه يحتوي على عشرات الآلاف من أطنان المياه مُحاطة بالآلاف من المُضاعِفات الضوئيّة. يعادل جهاز الكشف في ضخامته مبنىً من عدّة طوابق، ويبدو في هيئته وبوجود هذا العدد الضخم من المُضاعِفات الضوئيّة ككائن أسطوري خرافي. الُمضاعفات الضوئيّة هذه تقوم برصد الإلكترونات أو الميونات الناشئة عن تفاعل النيوترينو مع المادة وذلك عن طريق نوع معيّن من الإشعاع يُسمّى إشعاع تشيرِنْكوف يصدر عن هذه الجسيمات المشحونة عندما تسير داخل الماء بأعلى من سرعة الضوء خلاله.

Text Box:

نموذج لكاشِف كاميوكاندي

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/9/9f/Kamiokande89.JPG/330px-Kamiokande89.JPG

 

�������� من خلال تعاون دولي عالَمي يضمّ كلًّا من اليابان والولايات المتّحدة الأمريكيّة وكوريا والصين وبولندا وإسبانيا، تمّ إنشاء تجربة أخرى سُميَّت كاميوكاندي الفائقة. وحتى يتمّ رصد عدد أكبر من النيوترينوات مقارنةً مع التجارب السابقة، يتمّ هنا استخدامُ كميّة ٍأكبر من المياه وعددٍ أكبر من المُضاعفات الضوئيّة، وقد بدأ الإعداد للتجربة منذ أوائل التسعينيّات إلى أن أُجرِيَت عام 1996. وفي غضون عام 1998، وأثناء مؤتمر دولي عن النيوترينو، تمّ الإعلان عن النتائج والتي تؤكِّد أن فيض نيوترينو الميون أقلّ من المتوقَّع ويساوي فيض نيوترينو الإلكترون. إن هذه التجارب كما أكّدت ما هو متعلِّق بشأن النيوترينو الجوّي، فإنها أكّدت أيضًا ما هو متعلّق بشأن النيوترينو الشمسي وأكّدت ما تمّ رصدُه من قبل بواسطة راموند دافيز.

كاشِف تجربة كاميوكاندي الفائقة

https://www-sk.icrr.u-tokyo.ac.jp/en/sk/experience/gallery/#modal13

 

�������� وفي ضوء تلك الاكتشافات التجريبيّة تمّ منح راموند دافيز جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2002 وكان عمره وقتئذ سبعة وثمانين عامًا، حيث كان محظوظًا أن يطول به العمر إلى هذا الحدّ ويأخذ جائزة نوبل التي شاركه فيها عالِم الفيزياء الياباني كوشيبا المسؤول عن تصميم تجربة كاميوكاندي. وفي السنوات التالية، نال الجائزةَ عالِمُ الفيزياء الياباني كاجيتا تاكاكي وكان رئيس الفريق المسؤول عن تجربة كاميوكاندي الفائقة وشاركه فيها عالِم الفيزياء الكندي آرثر ماكدونالد الذي كان يقود فريقًا لتجربٍة تهدف إلى الكشف عن النيوترينو الشمسي في كندا حيث أكّدت أيضًا ما تمّ رصدُه سابقًا بواسطة دافيز.

دافيز عام 2001

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/a/a8/Raymond_Davis%2C_Jr_2001.jpg/330px-Raymond_Davis%2C_Jr_2001.jpg

 

�������� في الواقع، لن أستطيع ولضيق المساحة التحدُّث عن جميع التجارب التي أُجريَت بشأن النيوترينو الجوّي والشمسي وعن كلّ العلماء الذين ساهموا فيها، لذلك نعتذر للقارئ عن عدم الإحاطة الكاملة هذه ونذكّره بأن هذا الإغفال لا يدلّ على عدم الأهميّة بل إنني اضطررْتُ لذلك بسب ضيق المقال.���

 

سادسًا) النيوترينو وتغيير الهويّة (النكهة)

�������� كما رأينا ممّا سبق، تبيّن أن هناك مشكلتَين أو مسألتَين، تخصّ إحداهما النيوترينو الشمسي، بينما تتعلّق الأخرى بالنيوترينو الجوّي. في حالة نيوترينو الشمس، يكون فيض نيوترينو الإلكترون الذي يصل إلى الأرض صادِرًا عن الشمس أقلَّ من المتوقَّع، بينما في حالة النيوترينو الجوّي يكون أيضًا فيضُ نيوترينو الميون المرصود على سطح الأرض أقلّ من المتوقَّع. ماذا يحدث للنيوترينو عندما يرحل في الفضاء متّجهًا من الشمس أو من طبقات غلاف الجوّ العليا وصولًا إلى الأرض؟ هل يمكن أن يغيّر النيوترينو من هويّته وهو يرحل في الفضاء، بمعنى أنه يتحوّل من نوع لآخر؟

�������� هذا بالفعل ما اقترحه الفيزيائي الإيطالي برونو بونتيكورفو عام 1969. لتبسيط الفكرة، نفترض أن هناك نوعَين من النيوترينُوات، أحدهما المُصاحِب للإلكترون ونرمز له νeوالأخر المُصاحِب للميونνμ ، وكلاهما ذو هويّة محدّدة. لا تمتلك هذه النيوترينوات ذات الهويّة المُحدَّدة كتلةً مُحدَّدة. أمّا عن الحالاتِ ذاتِ الكتلةِ المحدَّدةِ القيم فنرمز لها بـ ν1للحالة ذات الكتلة m1، و بـ ν2للحالة ذات الكتلة m2. الحالة مُحدَّدة الهويّة هي عبارة عن تركيب خطّي كمومي من الحالات ذات الكتلة المُحدَّدة، ويمكن التعبير رياضيا عن ذلك كالتالي:

νe = ν1 cosθ + ν2 sinθ

νμ = -ν1 sinθ + ν2 cosθ

كما يمكن تمثيل هذا "الدوران" بالرسم كما يلي:

هذه الحالات من التراكب الكمومي تسمح بها نظريّة الكمّ، وتؤدّي إلى تأثيرات كمومية خالصة لا تظهر إلاّ في نطاق نظريّة الكمّ والنظم الخاضعة لها. من ضمن هذه التأثيرات ما يُعرَف بتغيير الهويّة، فمثلًا نبدأ بالجسيم νe وهو حالة تراكب ((ν1 cosθ + ν2 sinθ وعندما ننتظر بعضًا من الوقت فإن كلّاً من الحالتَين ν1 و ν2 تتغيّران مع الزمن بكيفيّتَين بسيطتَين ولكن غير متطابقتَين، وهذا يؤدي إلى تغيير حالة التراكب ذات الهويّة νe إلى حالة تراكب يمكن أن يتواجد فيها كلّ من νe و νμ. أي أننا قد نبدأ بحالة νe وبمرور الزمن قد يختفي νe تمامًا ويظهر بدلًا منه νμ أو خليطٌ (مزيج) يحتوي على كلّ من νe و νμ . وهذا يعتمد على الزمن بطريقة دوريّة من خلال دوالّ مثلثيّة، ولذلك يسمّي الفيزيائيّون هذه الظاهرة بتذبذب (اهتزاز) النيوترينو، وتُحدَّد سمات هذه الدوالّ الدوريّة من خلال زاوية الاختلاط θ والفروق بين مربّعَي الكتلة m22-m12 وطاقة النيوترينو. يختفي هذا التذبذب تمامًا في حالة انعدام الاختلاط، أي عندما تكون زاوية الاختلاط مساويةً للصفر θ = 0، أو عند تساوي الكتلتَين m1 = m2.

�������� يمكن بسهولة تعميم هذا التحليل عندما يكون لدينا ثلاثة أنواع من النيوترينو (νe, νμ, ντ)، وبالتبعيّة ثلاث حالاتٍ ذات كتلة محدّدة (ν1, ν2, ν3)، وفي هذه الحالة يكون لدينا ثلاث زوايا اختلاط بالإضافة إلى زوايا طور تكون مسؤولة عن الفرق بين سلوك المادّة والمادّة المُضادّة.

�������� في الواقع، إن التجارب التي كانت تُجرى على النيوترينو بشأن مشكلتَي النيوترينو الجويّة والشمسيّة كانت تأخذ بعين الاعتبار اهتزاز النيوترينو وتغيير هويّته، ومن بين هذه البيانات التجريبيّة يمكن تعيين زوايا الاختلاط، وبعض زوايا الطور، والفروق بين مربّعات الكتل.

�������� كانتالنتائج التجريبيّة تدلّ على أن زوايا الاختلاط كبيرة على النقيض من الاختلاط في قطّاع الكواركات، حيث زوايا الاختلاط صغيرة. إن زوايا الاختلاط في النيوترينُوات يمكن أن تبلغ ثلاثين درجة في حالة مشكلة النيوترينو الشمسي، وخمسة وأربعين درجة في حالة مشكلة النيوترينو الجوّي.

�������� أمّأ عن فروق مربّعات الكتل، فهي بالغة الصغر بحيث أنها مع اعتبارات أخرى تؤدّي إلى امتلاك النيوترينو لكتلة صغيرة جدًا. هذه الكتلة الصغيرة المتوقَّعة للنيوترينو أصغر من كتلة الإلكترون بحوالي مليون مرّة، ونذكر أن الإلكترون بحدّ ذاته يُعَدّ من أخفّ الجسيمات الأوليّة.

 

سابعًا) خاتمة وتحدّيات

ممّا سبق يتّضح لنا أن النيوترينو تفاعله ضعيف جدًا مع المادّة، ولكي يتسنّى لنا اكتشافه لا بدّ من بناء كواشف عملاقة تحتوي على كميّات ضخمة من الموادّ كالماء مثلًا.

�������� تستلزم تجارب اهتزاز النيوترينو أن تكون له كتلة والبيانات التجريبيّة تشي بصغر هذه الكتلة إلى حدّ مليون مرّة أصغر من كتلة الإلكترون، وهذا الصِّغرُ البالغ لكتلة النيوترينو بالنسبة للجسيمات الأوّليّة الأخرى يستصرخنا من أجل التفسير. وماذا عن هرميّة ترتيب الكتل (بمعنى الترتيب من الأصغر نحو الأكبر من ناحية الكتلة)؟ وهل هناك ثلاثة نيوترينُوات أم أكثر؟

�������� هل لعب النيوترينو دورًا فاعِلًا في تشكيل الكون حولنا؟ في الحقيقة، إن الكونَ حولَنا مليءٌ فقط بالمادّة، ولا توجد آثار ملحوظة عن تجمّعات من المادّة المُضادّة. حسب نموذج الانفجار العظيم لنشأة الكون، فإن الكون قد بدأ بمقادير متساوية من المادّة والمادّة المُضادّة، ولو استمرّ على هذا الحال لانتهى به المطاف إلى كونٍ مليءٍ بالفوتونات، وَلَما كنّا هنا الآن نتعجّب من نشأة الكون. لا بدّ من أن هناك ثمّةَ فروقٍ بين المادّة والمادة المُضادّة أدّت إلى هيمنة (سيادة) المادّة في كوننا الحالي. هل يمكن للنيوترينو أن يلعب دورًا مهمًّا هنا؟��

����� تستلزم هذه التحدّياتُ والمعضلات إجراءَ تجارب جديدة بأفكار مُبتكَرة، وبناءَ كواشف عملاقة أكبر حجمًا من سابقاتها، بغرض الإمساك بأعداد أكبر من النيوترينو، وذلك من أجل تحسين التحليل الإحصائي للنتائج التجريبيّة، وإعدادَ حزم كثيفة من النيوترينو يمكن ضبطُ طاقتها حسب رغبتنا، وذلك لأن دراسة تأثير طاقة النيوترينوات تُمكّننا من قياس أشياء كثيرة مهمّة.

هناك بالفعل الكثيرُ من التجارب يُعَدّ ليتمّ إجراؤه في المستقبل القريب حتى يتمّ فكّ شِفرة ذلك الجسيم اللغز الذي ظلّ يُدهشنا على قرابة مائة عام، وما زال في جعبته الكثير من المفاجآت.��� ��

ثامنًا) المراجِع

[1] Frank Close, (2010), Neutrino, Oxford University Press, Oxford

[2] Takaaki Kajita, (2010), Atmospheric neutrinos and discovery of neutrino oscillations, Proc. Jpn. Acad. Ser. B 86.



[1] بالطبع مبدأ مصونيّة كمية الحركة سارٍ ولم يكن هناك شك أو جدال حول ذلك.

مقابلة

من الأبواب الثابتة في مجلّة مسارات إجراء مقابلة مع إحدى الشخصيّات العلميّة المهمّة في العالَم العربي أو في العالَم. يُشرّفنا في العدد الثاني من مجلّتنا أن نستضيف الأستاذة ماري بيشاي Mary BISHAI المتحدِّث الرسمي لتجربة الـ Deep Underground Neutrino Experiment (DUNE) �التي تضمّ أكثر من 1400 عالِم وسوف تُرسِل أكثرَ حزم النِّترينو شدّةً في العالَم لتقطع مسافةً تنوب على 1300 كم من مخبر فيرمي بالقرب من شيكاغو إلى مركز أبحاث سانفورد تحت الأرضي في داكوتا الجنوبيّة بهدف إجراء أبحاثٍ حول دور النترينو في عمل الكون، كما أنها حازت بصفتِها عضوةً �في تجربة Daya Bay في الصين -التي بيّنت عدمَ انعدام الزاوية الصغرى لتمازج النّترينُوات- وبالمشاركة مع أعضاء فريق التعاون الدولي جائزةَ الكشف-الاختراق Breakthrough المرموقة في العلوم الأساسيّة.� �أجرى اللقاءَ يوم 13 مايو-أيّار 2024 كلٌّ من عادِل عوض ودانا عبد الغني من فريق التحرير. يمكن مشاهدة المقابلة كاملةً على الرابِط:����

https://drive.google.com/file/d/1e6whH0bOyl_oqDd39Fs3YxkMb6zrs55J/view?usp=sharing

مقابلة مع الأستاذة ماري بيشاي، المتحدِّث الرسمي لتجربة DUNE المهمّة عن خواصّ النترينو

 Mary Bishai

ماري بيشاي في بروكهافِن

https://www.bnl.gov/newsroom/news.php?a=121011

عادل: مساء الخير، بروفيسورة بيشاي. نتشرّف باستضافتكِ في هذا العدد الثاني من مجلتنا "مسارات في الفيزياء" الصادرة عن الجمعية العربية للفيزياء.

لديكِ مسيرة علمية متميزة للغاية، فأنتِ عملتِ وتعملين في بعض أهمّ مختبرات فيزياء الجسيمات في العالَم: أولاً، في مختبر فيرمي-لاب، مع تجربة التيفاترون، ثم مختبر بروكهافِن الوطني، حيث أنت الآن مسؤولة عن فريق عمل تجربة "دون" (DUNE) والبالغ 1400 عضو. بالإضافة إلى ذلك، شاركتِ في العديد من تجارب النيوترينو المهمّة وفي جميع أنحاء العالم، مثل تجربة داياباي (DayaBay) التي حصلتِ بالاشتراك مع فريق عملها على جائزة الـ Breakthrough في العلوم الأساسية في عام 2016. كما أنك أيضًا زميلة في الجمعية الأمريكية للفيزياء منذ عام 2014.

دعيني أقدم مجلتَنا بإيجاز، إنها تهدف إلى شرح البحوث المتقدمة في العلوم الفيزيائية للجمهور العربي، وتصدر عن الجمعية العربية للفيزياء الملتزمة بنشر المعرفة العلمية وتعزيز الفهم العام للفيزياء في العالَم العربي.

أنا عادل عوض، ومعي دانا عبد الغني، من فريق التحرير في المجلة، نحن سعيدان جدًا بلقائك.

دعيني أبدأ بالسؤال التالي: هل يمكنك أن تعطينا نظرة عامة موجزة عن مسيرتك الشخصية في فيزياء الجسيمات التجريبية منذ دراستك الجامعيّة ولغاية تولّي مسؤولية منصب المتحدث الرسمي لتجربة DUNE؟

 

ماري: بدأت مسيرتي الجامعية في الجامعة الأمريكية في القاهرة ثم انتقلت في السنة الثالثة إلى جامعة كولورادو، حيث حزتُ البكالوريوس في الفيزياء، ووقتَها كان مُشرِفي العلميّ/المهنيّ يعمل في مختبر فيرمي، وشاركتُه اهتمامَه بفيزياء الجسيمات. ثم انتقلت إلى جامعة بيرديو Purdue لدراسة الدكتوراة في مجال فيزياء الجسيمات التجريبيّة حيث عملتُ ضمن تجربة CLEO في مختبر جامعة كورنيل، حيث كان هناك مُصادم للإلكترون ومُضادّه، وكنتُ في جزءٍ من أطروحتي أدرس خواصّ الكوارك الفتّان (الساحِر charm).

في مرحلة بعد الدكتوراة، انتقلت إلى مختبر فيرمي للعمل على الكاشِف CDF لمُصادِم التيفاترون -أعلى مُصادِمِ جسيماتٍ طاقةً في العالَم حينئذ- الذي كان قيد العمل، وقد أُجرِي على الكاشِف تحديثٌ كبير ثانٍ CDF2، وكنتُ واحدةً ممّن أوصى باستخدام السيليكون فيه. عملُت في أبحاثي على العتاديّات hardware، كما قمت بقياس مُعدَّل إنتاج الجسيمات في ورقةٍ غدتْ واحدة من أكثر أوراقِ الـ CDF2 استشهادًا.

ثم التحقْتُ بمختبر بروكهافِن، حيث انتقلت في عملي من مصادِمات الهادرونات إلى النيوترينُوات. شاركتُ في تجربة داياباي (DayaBay) وتجربة أمينوس (AMINOS)، وهاتان تجربتا نيوترينو مختلفتان، أُجرَت أولاهما في الصين. تركّزت معظم مساهماتي في إجراء تجارب النيوترينو في أعماق الأرض، ولكنني شاركتُ في فريق عمل داياباي (DayaBay) في السنوات الأولى وجميع التجارب الصينية التي كانت تدرس خواصّ البوزيترونات والنيوترينُوات الصادرة من المُفاعلات القريبة.

بعد ذلك، كرّست عملي طوال السنوات العشرين الماضية في مختبر بروكهافِن لإنجاز تجربة النيوترينو ذات الخطّ القاعدي الطويل Long Baseline Neutrino Experiment (LBNE) في الولايات المتّحدة، حيث عاصرت نموَّ مشروعِ التجربة منذ بدئه كفكرةٍ اقترحها زميلي ميلان ديوان وآخرون لغاية اليوم باسمه الجديد تجربة النيوترينو عميقًا تحت الأرض Deep Underground Neutrino Experiment (DUNE). تمثّل هذه التجربة مشروعَ تعاونٍ دوليّ كبير يجمع جهود العلماء التجريبيين في الولايات المتحدة وأوروبا وجنوب إفريقيا ويهدف إلى تحقيق إرسال حزمة نيوترينو من مختبر فيرمي والكشف عنها بكواشف موجودة على بعد 1300 كيلومتر في منجمٍ عميقٍ في ولاية داكوتا الجنوبية.

أستطيع القول إن رحلتي في فيزياء الجسيمات بدأت في عمر الخامسة عشر عندما قدمّ لي عمّي الدكتور حلمي بيشاي -وهو عالمُ أحياء مشهور في مصر متخصِّص في أسماك المياه العذبة ولديه العديد من الدراسات الرائدة في هذا المجال- عددًا لمجلة ناشونال جيوغرافيك National Geographic كان لديه حينها، فقرأت فيه مقالاً عن فيزياء الجسيمات يتحدث عن التيفاترون، وعن مخبر السيرن، وقررت أن هذا ما أريد أن أفعله. وحيث أن العديد من أعمامي -وحتى والدي- كان حائزًا على شهادة الدكتوراة، فإنني أعتبر هذا الحدث بدايةَ الرحلة التي انتهت بي إلى أن أكون باحثًا في مرحلة ما بعد الدكتوراه في التيفاترون. وأنا لا زلت أحتفظ بذاك العدد من مجلة ناشونال جيوجرافيك، وأشكر عمّي لأنني بفضله تعرّفتُ إلى هذا المجال من البحوث.

التيافاترون في مختبر فيرمي

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/3/3f/Fermilab.jpg/1024px-Fermilab.jpg

كاشِف في تجربة الـ DUNE

https://www.dunescience.org/wp-content/uploads/2018/01/protoDUNE_cryostat_interior-1195x279.jpg

 

دانا: كوني خرّيجةَ فيزياء أبحث عن مواصلة دراستي، فإنني أتساءل دومًا كيف يختار الناس مجالَ اهتمامهم بسرعة بعد التخرّج. لماذا اخترتِ فيزياء الجسيمات؟ ما الذي لفت انتباهَك في هذا المجال؟

 

ماري: ساعدني والدَيّ بتأمين بيئة مُشجِّعة للعلم والقراءة في المنزل. بعد انتقالي إلى الولايات المتحدة كطالب جامعي، تحدّثت مع أساتذتي فتقدّمتُ بطلب للحصول على درجة الدكتوراه في المعهد المعني اعتمادًا على قراءاتي وفهمي للاختلافات بين العلوم الأساسية والتطبيقية.

أعتقد أن الشباب اليوم يحصلون على المعلومات من الإنترنت ويشاهدون مقاطع فيديو YouTube وTikTok. في أيامي، كنتُ محظوظةً بأن لديّ والدَين اشتريا لي مجلات وكتبًا علمية لكي أتمكّن من تعليم نفسي لأنه لم تكن لدينا إمكانية الوصول إلى الإنترنت. وبالطبع، كانت هناك برامجُ علميّة -مُركِّزة أساسًا على الطِّب- تُعرَض على التلفزيون المصري، شاهدتها على قلّتها.

 

عادل: هل يمكنكِ إعطاء قرّائِنا في العالم العربي نظرة عامة على التجارب النيوترينُوِية التي تشاركين فيها حاليًا وما هي أهدافها؟ هل يمكنكِ أن تشرحي للمهتمّين بالعلوم كيفيَّة استخراج إشارات الفيزياء الجديدة من تجارب النيوترينو؟ وكيف يمكننا استخدامها للتمييز بين نماذج النيوترينو المختلفة؟

 

ماري: تَعلم أنه إذا وضعتَ يدَك خارجًا، ستضربها 10 مليارات نيوترينو قادمة من الشمس. إذن، النيوترينُوات متوافرة بكثرة، وهي جسيمات معتدلة كهربائيًّا وخفيفة جدًا يتمّ إنتاجها في عمليّات الانشطار والاندماج النوويَّين. هذه قصة النيوترينوات التي لعبت دورًا رئيسيًّا في حصول مختبر بروكهافِن على جائزتَي نوبل (1988 و2002)، وتُجرى حاليّا تجربتان (ICARUS, SBND) بالتعاون بين مخبرَي فيرمي وبروكهافِن.

بدأ العمل بناءً على فكرة استخدام النيوترينُوات لفهم الشمس، لأنها جسيمات تتآثر وتتفاعل بضعف شديد. يمكنك دراسةُ النيوترينُوات من الشمس وتحديد توزيع طيف طاقتها لمعرفة نوع الوقود الذي يحترق داخل الشمس. إذا نظرت فقط إلى ضوء الشمس أو المجرات أو الظواهر الفلكية الأخرى مثل نجم ينفجر كمستسعِرٍ فائق (سوبرنوفا)، فستشاهد ما يحدث على السطح فقط. أمّا إذا أردت رؤية العمليّات التي تحدث داخل الشمس أثناء احتراقها أو انفجارها، فالنيوترينُوات أداة سبرنا هنا -لضعف تفاعلاتها أثناء تسلّقها للسطح- وهذا سببُ اهتمامنا بها.

من خلال هذه الدراسة، تمّ وضع كاشِف كبير على بعد مسافة كبيرة (1.5 كم) تحت الأرض -بحيث يكون محميًا من الأشعة الكونية- في ما كان منجمًا للذهب في ولاية جنوب داكوتا. هذه كانت التجربةَ الشهيرة التي قام بها راي ديفيس من مختبر بروكهافن الوطني، درسَ فيها نيوترينُوات من الشمس وقام بإحصاء عددها المُنتَج هناك. لقد كان هناك اختلاف بين ما تمّ إنتاجُه وما تمّ كشفُه، وهذا الفرق نجم لأننا كنّا نبحث عن تفاعل كيميائي ينظر بشكلٍ مُحدّد إلى تفاعل نيوترينُوات الإلكترون. �

استنتجت التجاربُ اللاحقة في اليابان أن النيوترينوات فعلاً تتغير من هويّة (نكهة flavor) إلى أخرى. وقد اقترن هذا الأمر مع وجود أنواع عدّة للنيوترينُوات. مثلًا، اكتشفتْ تجربةٌ في مختبر بروكهافِن وجودَ نيوترينو يرتبط بالتفاعلات المُنتِجة لميون فأُطلق عليه اسم نيوترينو الميون، ثم كانت هناك تجاربُ في مختبر فيرمي اكتشفت أيضًا النيوترينو الثالث المرتبط بلِبتون التاو الأثقل من بين اللبتونات الثلاثة: الإلكترونات والميونات والتاوات. نعلم الآن أن النيوترينًوات تنتقل من نوع إلى آخر، ولكل نيوترينو هويّة، فإمّا أن تكون إلكترونيّة أو ميونيّة، أو تاويّة. يعني ذلك أنه عند حدوث التفاعل مع النترينو فإن الناتجَ دومًا هو إلكترون أو ميون أو تاو وفقاً لكون نترينو التفاعُلِ جسيمَ نترينو إلكترون أو نترينو ميون أو نترينو تاو على الترتيب، وبشكلٍ مُشابه إذا صدر لدينا مضاد إلكترون فهذا يعني أن التفاعل قد جرى مع مُضادّ نترينو إلكترون، وهكذا.

نعلم الآن أن كل هويّة-نكهة في الواقع هي تراكُبٌ من ثلاث حالات كموميّة كلٌّ منها يتميّز بقيمة محدّدة للكتلة، والتمازُجات المتباينة لهذه الحالات الكتليّة تتوافق مع النكهات المتنوّعة للنترينو. عندما تتحرك هذه الكتل المُكوّنة لتراكُب النيترينو الكمومي فإنها تتحرك بسرعات مختلفة، وبالتالي تتغيّر التركيبةُ الكتليّةُ للنيوترينو، أي يمكن لنكهة النيوترينو أن تتغير من واحدة إلى أخرى. هذا التداخل الكمومي ظاهرة فريدةٌ ومميِّزة جدًا للنيوترينو بسبب كتلته المنخفضة كثيرًا، حيث يمكن ملاحظة هذا التداخل على مسافات طويلة جدًا، بالرغم من أن قيمَ الكتل صغيرة جدًا.

نتحدث هنا عن الفرق بين أخف كتلة وأثقل كتلة. نحن لا نعرف الكتلة المطلقة للنيوترينو، ولكن نعلم أنها أقل من نصف إلكترون فولت. يبيّن لنا الفرق بين كتلتَي الحالتَين الثالثة والثانية وجودَ قيمةٍ كتليّة على الأقلّ 0.05 إلكترون فولت وقد تصل إلى 0.5 إلكترون فولت. نحن نعرف الفروق بين قيمِ كتل الحالات الكتليّة، ولكننا لا نعرف الكتلة المطلقة للحالة الأخف وزنًا، وهذا هو أحد الأمور التي نحاول تحقيقها.

حاليًا، نركِّز في دراساتنا على كيفية امتزاج النيوترينُوات ومُضادّاتها فيما بينها لمعرفة ما إذا كانت هناك أدلة على تفاوتات وتخالفات كبيرة بين المادة وضدّها. نعلم من قطاع الكواركات وامتزاجها الأصغر بكثير من ذاك الذي للنترينو، أن هناك فرقًا بين تجلّي المادة والمادّة المُضادّة، ولكن الفرقَ صغير جدًا لا يكفي لتفسير سبب امتلاء الكون بالمادة. لذا، نحن نبحث فيما إذا كان للنيوترينو تفاوتات أكبر في طريقة امتزاج النيوترينُوات ومضاداتها، فإذا كان هناك تخالف كبير، أمكن لذلك أن يعطينا إشارةً عن نوع الفيزياء التي تؤدي إلى سيادة المادة على ضدّها في الكون.

ولكن في الوقت الحالي، الحافز الأكبر وراء تجارب النيوترينو الضخمة بما فيها تجربة النيوترينو في أعماق الأرض هو البحث عن الاختلاف بين اهتزازات وتأرجحات نكهات النيوترينو وموافقاتها للنيوترينو المضاد، وأيضًا استخدام هذا الاختلاف للبحث عن شيء آخر.

بالطبع، سوف تخبرنا هذه التداخلات ما إذا كانت الحالة الكتلية الثالثة أثقل أم أخفّ من الحالة الأولى. علاوةً على ذلك، قد نستطيع تحديد ماهيّةَ مكوّنات الحالة الكتلية الأولى أو الثانية أو الثالثة. أعني هنا أننا نعلم أن الجسيمات تأتي ضمن عائلات أو أجيال generations، فالإلكترونات من العائلة الأولى في النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، أمّا الميونات والتاوات فتنتمي للعائلة الثانية والثالثة، وبالتالي، نعلم أن ما نسميه الحالة الكتلية الأولى للنيوترينو تحتوي في الغالب على نترينو إلكترون، لذا إذا اتبعنا النموذج كما في القطاع الكواركي، سنجد أن العائلة الدنيا وبالتالي الكتلة الأولى هي الأخف وزنًا، تليها الكتلة الثانية فالثالثة. هذا ما نسميه الترتيب الطبيعي normal ordering للنيوترينو، وتوافق كونَ الحالةِ الكتليّةِ الثالثةِ، المحتويةِ على أجزاء متساوية تقريبًا من نيوترينو التاو ونيوترينو الميون المنتميَين للعائلتَين الثانية والثالثة، هي الأثقل، وبالتالي نتبع ترتيب الكتل الطبيعي مثل الكواركات.

إذا لم يكن الأمر كذلك، فسيكون الترتيب معكوسًا (مقلوبًا inverted). يُثير الترتيبُ المعكوس الاهتمامَ، لأن كل شيء يتعلق بالنيوترينو مختلف جدًا عن القطاع الكواركي، وحقيقةُ امتلاكِه كتلةً بالفعل تُعتبر فيزياءَ خارج النموذج القياسي، كما أن حقيقةَ كونِ اختلاطاتِ حالاتِ نكهاتِه تكاد تكون قصوى هي شيءٌ شديد الاختلاف عن الكواركات، حيث الاختلاط صغير ولكنه موجود. لذا التناظرات الحاكِمة في قطّاع النيوترينو مختلفة جدًا عنها في قطّاع الكوارك.

لذلك نريد أن نعرف ما إذا كانت الاختلاطات فعلًا قصوى عند النيوترينو، وما إذا كان ترتيب الكتل طبيعيًّا كما في الكواركات، أم أنه مختلف. هذه هي الأسئلة التي نحاول الإجابةَ عليها من خلال دراسة تذبذبات النيوترينو في تجارب مثل تجربة النيوترينو عميقًا تحت الأرض، وتجارب مماثلة في اليابان حيث تصدر النترينُوات عن مسرّعات. أمّا في تجربة داياباي Daya Bay الصينيّة، فيُدرَس الاختلاط على مسافات أقصر من كيلومتر لنترينُوات صادرة عن مفاعلات نووية: في حالة واحدة تُدرَس تذبذبات النيوترينُوات (ومُضادّاتها) الميونية، وفي حالة ثانية ندرس تذبذبَ نيوترينُوات الإلكترون المضادة الصادرة عن المفاعلات.

تذبذب واهتزاز النيوترينُوات

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/b/b5/41467_2015_Article_BFncomms7935_Fig1_HTML-en.svg

 

دانا: هل واجهتِ أي عقبات في مسيرتكِ المهنية كامرأة في مجال العلوم؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تعاملتِ معها؟

 

ماري: بشكل عام، لا تشعرين بالكثير من العقبات عندما تكونين أقلَّ خبرة. أعتقد أنه ليست هناك عقبات كثيرة، ولكن هناك اختلافات في الطريقة التي تصبحين فيها أكثرَ خبرة، وتبدئين في تبوّء مناصب قيادية. هناك اختلافات في الطريقة التي يستجيب بها الناس للقادة من النساء والرجال، وحتى كيفيّة الوصول إلى تلك المناصب، إذ يبدو أنّ على القادة النساء إثباتَ أنفسهنّ بشكل أكبر، كما أنهنّ يَمِلن إلى تبرير آرائهنّ بشكل أكبر من زملائهنّ الرجال. يمكن اعتبارُ هذه الأمور عقباتٍ، ولكن من ناحية أخرى، أعتقد أنها تجعلكِ عالِمةً وقائدةً أفضلَ إذا كنتِ حذرةً فيما تقولينه، وإذا كنتِ أكثر إقناعًا. لذا يجب علينا ألاّ نأخذ ببساطة ما يقوله البعضُ عن الإدارة لأننا على دراية بطريقة تفكيرهم أو لأنهم ذكور أو إناث، بل يجب دومًا تفحّصُ ذلك، وكمديرةِ فريقٍ عليكِ الإصغاءُ لآراء الآخرين ثم تبرير القرارات التي تتخذينها. لذلك، نعم أعتقد أن هذا النوع من التحدّي يجعلنا علماءَ أفضل. ولكن من ناحيةٍ أخرى، من الأسهل أحيانًا تبّوءُ منصب المدير لو كنتِ رجلًا وذلك بسبب التحيّز الضمني لدى الجميع -بما في ذلك النساء أيضًا- تجاه كيفيّة تصرّف المدراء وكيفية إثبات قيادتهم وسلطتهم.

 

 

عادل: في هذا الصدد، هل أثّرت نشأتكِ في إفريقيا، أوّلًا في في نيجيريا ثم في مصر، على اهتماماتك بالعلوم؟ بمعنىً آخر، هل كان لديك تعرّضٌ كافٍ للعلوم كمراهقة في هذين البلدين؟ وما هي النصائح التي يمكنكِ تقديمُها للأهل من أجل إبقاء أبنائهم مهتمّين بالعلوم؟

 

ماري: دعني أقلْ إن جيلي -جيل إكس X كما يسمونه- كان مختلفًا إلى حدّ ما، من حيث أن فرص الاطّلاع على العلوم كانت أقل بكثير. ولكني ذهبتُ إلى المدرسة الابتدائية في نيجيريا، ما أعطاني خلفيّةً رياضية ممتازة، فقد وفّرت لي مدرستي تدريبًا رياضيًا جيدًا، كما كان معلِّمو الرياضيات رائعين عندما جئت إلى مصر، على الرغم من أن المناهج الدراسية -وفقًا للطريقة التي كانت تُدرَّس بها في ذلك الوقت- كانت ثابتًة غير ديناميكيّةٍ. هذه هي الحقيقة، أليس كذلك؟ عندما كنتُ في المدرسة، شكّلت طريقةُ تدريس الفيزياء والرياضيات في المناهج الحكوميّة مشكلةً كبيرة، فقد كنّا نُلقَّن طريقةَ الحل دون وجود فرصة لفهم المفاهيم أو مناقشتها بشكل جيّد. ومع قولي هذا، كان معلِّمو الرياضيات والفيزياء رائعين، بعضهم كان يشرح من خارج المنهاج ليُثير الاهتمامَ فينا.

لكنْ الأهمُّ من ذلك كان دعمَ والديَّ لي. أعتقد أن معظمَ الأهالي اليومَ يقفون وراء أطفالهم. نعم، لأن الجميعَ أكثرُ وعيًا بما يحدث، وذلك بسبب إمكانية الوصول إلى الإنترنت، فهناك الكثير من الفرص لتعلّم المزيد.

على سبيل المثال، أنا مُحاضِرةٌ في المدرسة الإفريقية للفيزياء، التي بدأها أحد زملائي كتعاونٍ مشترك بين الولايات المتحدة وأوروبا وتُعقد كلَّ عامين منذ عام 2000. نقوم هناك بإعداد محاضرات في الفيزياء الأساسية، ونختار الطلاّب من خلفيات أقلّ تميّزًا وحظوظًا. لقد جئتُ من خلفية ميسورة الحال، إذ ذهبت إلى مدارس خاصة، وكان والدايَ ثريَّين نسبيًا، وفّرا لي المواردَ التي لم أكن أستطيع الحصول عليها لوحدي. لكن ما نراه اليوم هو أنه بسبب انتشار الإنترنت، يطّلع الأطفال -حتى بطريقة بسيطة من خلال المدارس أو نوادي العلوم- على الكثير، فيمكنهم البحثُ عمّا يثير اهتمامَهم واستكشافُ الإنترنت من أجل التعلّم، بل وحتى -كما تعلم- يمكنهم أخذ دورات تعليميّة إذا لزم الأمر. لقد أضحى أمر التعليم أسهلَ من قبل، ولكن أعتقد أننا يجب أن نبدأ بتقديم المفاهيم وإطلاع أطفالِنا على المصادر التي سيجدون فيها شروحاتٍ عنها.

عندما كنتُ في جنوب إفريقيا، وجدتُ أنه كان لديهم متحفُ علومٍ رائع، يُحضِرون إليه الطلاب، ويوفّرون فيه برامج محاضرات عامة. يمكن إذن جعلُ المدارس -سواء أكانت خاصّة أم حكوميّة تخدم بيئاتٍ فقيرة- تنخرط في مثل هذه النشاطات التي يمكن أن تؤمِّن المراجعَ ومحاضراتٍ عامّةً يُلقيها ضليعون بالعلم، ممّا يمكن أن يجذبَ انتباه الطلاب، ما يجعلهم يبحثون لاحفًا على هواتفهم عن المزيد. ولكن يجب أوّلًا تأمين هذا الطريق الابتدائي، أي المكان الذي يوفِّر فرصَ إعطاء الأفكار العلميّة بطريقة ممتعة.

وهذا هو الجميل في متاحف العلوم أو إعطاء المحاضرات في المختبرات. صحيحٌ أن هذه الأماكن قد لا تتّسع للجميع، ولكن يمكن للطفل التلميذ قضاءُ بعض الوقت في مراكزَ كهذه تمّ إنشاؤها بطريقة تجذب اهتمامه، كما يمكن أن يُعتبَر ذلك جزءًا من النشاط في المنهاج الدراسي. أعني، كما قلتُ، أحيانًا ليس لدى المدارس القدرةُ على الحصول على المزيد من الأموال، ولكن من خلال المشاركة بمثل هذه النشاطات يمكنها جذب الطلاّب إلى العلم وتشجيعهم على الانخراط في فعاليّاته بشكل أفضل.

 

 

دانا: ما هي النصيحة التي تقدميها للفيزيائيين الشباب الذين يطمحون إلى بناء حياة مهنية في العلوم، وخاصةً النساء؟ كيف يمكن للبلدان النامية، وخاصّةً العربيّة، أن توفر للنساء المزيدَ من الدعم والفرص للمشاركةِ بشكلٍ أكبر في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات؟

 

ماري: أعتقد أنه فيما يخصّ مجالات مثل الطب والهندسة فإننا لا تحتاج لفعل الكثير من أجل تشجيع الطلاب على دراستها، فأغلبيتهم تضع هذه المجالات في مقدّمة طموحاتها، ولكن لا بدّ من النضال لجعلهم يقدّرون ويدرسون العلوم الأساسية، بسبب غيابِ الفهم لما يعنيه التدرّبُ والتمرّنُ في العلوم الأساسية. تميل أسواقُ العمل لدينا في الشرق الأوسط وإفريقيا إلى أن تكون مُحدَّدة للغاية، فربُّ العمل يقوم بتوظيف هذا الشخص الذي يجب أن يعرفَ ذاك الأمرَ تمامًا. في الولايات المتحدة، لا تهتمّ سوقُ العمل تمامًا بما تعرفُه، بل بمدى إبداعِكَ وقدرتك على التعلّم، لذلك، فهي أكثرُ اهتمامًا بإجرائيّة تفكيرِك. يعني هذا الأمرُ أنه من أجل تحقيق التقدّم في ثقافاتنا علينا إدراكُ أنّ تعلُّمَنا للعلوم الأساسية يزوِّدنا بطريقة تفكيرٍ ومقاربة معيّنتَين، وأن هذا الأمرَ أكثرُ مرونةً بدرجات من أن تكون مُدرَّبا للقيام بعمل مُحدَّدٍ في مجال معين.

كما تعلمين، فإن الهندسةَ أيضًا تتطلّب أيضًا في جزءٍ منها الإبداعَ لتكونَ قادرةً على التقدُّم وتطبيق مفاهيم العلوم الأساسية هذه. لذلك، أعتقد أن تحقيقَ التقدُّم يتطلّب إدراكَ قيمةِ تعليم العلوم الأساسية، وأن الكثيرَ منها -وهذا ينطبق بشكلٍ خاصّ على فيزياء الجسيمات- يمثِّل مجالًا واسعاً رحبًا قد لا يكون مُحدّدًا تمامًا مثل علوم الهندسة. أنا مثلًا فيزيائيّة تجريبيّة، وأحتاج لتطوير مهارات تجريبية. عليّ أن أعرف القليل عن الإلكترونيّات، وعن تصميم الكواشف، كما يجب أن أعرف الكثيرَ عن تحليل المعطيات، وهذا مجالُ اهتمامٍ كبيرٍ في مجتمعاتنا، إذ نحتاج لأشخاصَ قادرين على الإبداع فيما يُسمّى المعطيات الضخمة، أي في كيفية فهم المعطيات وتحليلها، فهذا مجالُ عملٍ جيّدٌ للغاية من أجل التدريب على التقنيات المتقدّمة للتعلم بواسطة الآلة. أعني أنه عبر التطبيق فإنك لا تتعلّمين علمَ الحاسوب بل كيفيّةَ تطبيقه على مسألةٍ أمامكِ بطريقة إبداعية لم يستخدمها أحد من قبل.

لذلك، يكمن جزءٌ من الإجابةِ على سؤالِكِ في إقناع الناس بأن هذه المهارات مفيدة. وعندما تُشرِك الشبابَ، فافعلْ ذلك بالمساواة. لا يهمّ ما إذا كنتَ ذكرا أم أنثى أو ما هي خلفيّتُك، فأيًّا كانت بيئتُك -سواءٌ أأتيتَ من مدرسةٍ فقيرة أم غنية، أو من أيّ شيء آخر- الموهبةُ هي فرصةٌ عالَمية وكنزٌ شموليّ. في الواقع، ستجدين أن الأشخاصَ الأقلَّ امتيازا هم الأكثرُ موهبةً أحيانا لأنهم أكثر طموحًا ولديهم حافِزٌ أكبر لتحقيق الذات بمواجهة الظروف الصعبة. لذلك، علينا إيجادُ طريقةٍ لتحديد المواهب وفِعلُ ذلك بطريقة حيادية لا تتعلّق بماهيّتكَ، لا تفرق ما إذا كنتَ ذكرا أم أنثى.

 

 

عادل: بالعودة إلى فيزياء النيوترينو، ماذا كانت أفضلَ تجربة بحثية شعرتِ فيها بالفضول والحماس الأكبر؟ ما هي تجارب النيوترينو المستقبلية في العقد القادم؟ وما هي أهدافها؟ هل تمكنّا من تحديد طبيعة النيوترينو: أهي ديراك أم ماجورانا؟ وتراتبيّة كتله: أهي طبيعيّة أم معكوسة؟

 

ماري: حسنًا، أعتقد أن رحلةَ مهنتي منحتني رضىً وإحباطاً بقدرَين متساويَين. لقد كنتُ محظوظةً للغاية بانضمامي إلى مختبر بروكهافِن في الوقت الذي بدأت فيه فكرةُ ما غدا بعدَها تجربةَ DUNE تتطور. لقد مثّل الأمرُ تحديًا لأنه استغرق 20 عامًا، فهو مشروع ضخم جدًا، تصل كلفتُه إلى مليارات الدولارات، ويشمل العديد من البلدان، وبالتالي فهو تحدٍ كبيرٌ جدًا. أوّلاً، أحببْتُ جدًّا عملي عندما كنتُ العالمةَ المسؤولة عن المشروع وقتَها حين كان يُسمى بتجربة الـ LBNE والتي أضحت بعدها DUNE، فقد كنتُ مسؤولةً عن ربط أعضاء فريق التعاون العلمي بالمشروع الفعلي. هذا عملٌ ضخم بقيمة مليار دولار مع مهندسيه وفنّيّيه ومديري مشاريعِه، فكيف تترجم ما يحاول العلماءُ القيامَ به إلى ما نحاول بناءه؟ وما هي المتطلبات؟ وما هي المواصفات؟ ثم يُخبرك المهندسون أين يمكننا إجراءُ ذلك الأمر بهذه الطريقة، أو يخبرك المهندس المدني أين يمكننا القيام بذلك باستخدام كاشِفٍ أصغر أو كيف أوجِّه الحفرَ، فعليك أن تربطَ بين العلماء والمشروع الفعلي. لقد أحببتُ ذلك جدًا، وبقيتُ العالِمةَ المسؤولةَ عن المشروع حتى بداية الـ DUNE، حيث استخدمنا مفاهيم التجربة السابقة من أجل تطوير التصميم المفاهيمي للتجربة الجديدة. نعم، ما أثار حماسي حقًا هو أنني كنتُ عامِلَ الارتباط الذي يردم الحفرة فيقرِّب وجهاتِ النظر بين المهندسين ومدراء المشاريع من ناحية وبين العلماء الفعليّين والعلوم التي نريد القيام بها من ناحية أخرى، لنترجمَ ذلك بما كنّا ننشئه أو بحاجة إلى بنائه.

أمّا عن الجزء الثاني من السؤال والمتعلّقِ بتجارب النيترينو، فأقول ما يلي. في الوقت الحالي، هناك طريقتان رئيسيّتان لمعالجة مسألة التراتبيّة الهرميّة (أو الترتيب) للكتلة، التي تنصّ كما ذكرت على معرفة النيوترينو الأثقل، فهل هو ذاك المحتوي على نكهة العائلة الثانية فيه (m3>m1)؟ أمّ أن هذا هو الأخفّ (m3<m1) وبشكلٍ غير متّسق تمامًا مع القطّاع الكواركي؟ في يخصّ الكواركات، فإن الكوارك العلوي والسفلي من العائلة الأولى هما الأخفّ، ثم يليهما الكوارك الغريب والفتّان من العائلة الثانية، والأمر نفسُه بالنسبة للّبتونات المشحونة فالإلكترون من العائلة الأولى أخفّ من الميون من العائلة الثانية الذي هو أخفّ بدوره من التاو من العائلة الثالثة، ولكن هذا الترتيب قد لا يكون هو المتَّبَع عند النيوترينُوات، فهل حالة النيوترينو الكتليّة (بكتلة m1) المحتوية على القسم الأكبر من نيوترينو الإلكترون هي الأخفّ؟

إذن، ترتيب الكتلة مسألة مهمّة، وهناك طريقتان لمعالجتها. أولاً، يمكننا النظر إلى طرق تذبذب نيوترينو الميون واستحالته نيوترينُوَ إلكترونيًّا على مسافات طويلة، وهذه هي تجربة الـ DUNE التي ستتم بفضل المسافة الطويلة جدًا والبالغة 1300 كيلومتر، حيث يمكننا رؤية تغير نمط التداخل الناجِم على الأرجح بسبب بعثرة نيوترينو الإلكترون عن الإلكترونات في الأرض، بشكلٍ مُشابِه لتبعثر الضوء بسبب تغيّر قرينة الانكسار بين أوساط مختلفة، وبالتالي يمكن الحصول على تعزيزٍ لتذبذب نيوترينو الميون إلى نيوترينو إلكترون إذا كان ترتيب الكتلة طبيعيًا، أي إذا كانت كتلةُ الحالة الثالثة هي الأثقل.

تكمن الطريقة الأخرى لقياس هذه التراتبيّة الهرميّة في أن ننظر فعلاً إلى التفاصيل الدقيقة في نمط التذبذب والاهتزاز، فنمط الاهتزاز يبدو على شكل توزيع جيب مُربَّع sin2، ويكون الطور هنا دالّةً للطاقة. هذه هي مقاربة تجربة JUNO في الصين، التي تستخدم النيوترينُوات المولَّدة في المفاعلات النووية، إذ يتمّ تفحّص نيوترينُوات تقطع مسافةً حوالي 60 كيلومترًا -صادرةً عن مفاعلات قوية- ثم يتمّ إحصاء نيوترينُوات الإلكترون المضادة التي تبقى بعد قطع المسافة. توجد ذبذبة في هذا العدد طورُها يتمّ تفحّصه بطرق دقيقة جداً.

�التجربتان مختلفتان كثيرًا، ولذلك نرغب في أن نقدر على قياس تسلسل الكتلة الهرمي بهاتَين الطريقتَين. وبالتالي، خلال السنوات الأولى لتشغيل الـ DUNE، التي ستبدأ حوالي عام 2031، ستكون لدينا قياسات باستخدام تذبذبات واهتزازات النيوترينُوات الميونية إلى النيوترينُوات الإلكترونية عبر مسافات طويلة جداً، من خلال النظر إلى تعزيزٍ في هذا الاهتزاز ينجم عن تبعثر نيوترينُوات الإلكترون في الأرض. أو -في الطريقة الأخرى- يمكننا النظر إلى الطور في تجربةJUNO ، فإذا رأينا فرقًا عن السائِد، استنتجنا أن هناك أمرًا ما يحدث عندما ينتقل النيوترينو عبر المادة، وسيكون هذا أمرًا مثيرًا جدًّا للاهتمام. لذا، ستكون قياسات الـ DUNE خلال السنتَين الأُولَيَين ذات مدلوليّة إحصائية كبيرة، بينما ستستغرق معطياتُ الـ JUNO وقتًا طويلاً لأن القياسات هنا دقيقةٌ جدًا تتطلّب جهدًا كبيرًا قبل الوصول إلى تحديد طريقةِ القياس القاطِعة. الشيء المثير للإعجاب هو الجمع بين هاتين الطريقتين في نهاية المطاف، ولكننا نعتقد أن إتمامَ القياسات الحاسِمة سيتحقّق خلال السنوات الأولى من العقد المقبل، وبعد ذلك ستبدأ بيانات الـ JUNO في بلوغ المستوى نفسه من الدقة، أي ما يتجاوز 3 سيغما، وعندها يمكن النظر في معطيات كلتا التجربتَين المهمّتَين جدًا.

مسألة تراتبيّة كتل النيوترينو

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/9/94/Hierfig.pdf/page1-220px-Hierfig.pdf.jpg

 

أمّا بالنسبة للسؤال عن طبيعة النيوترينو، ماجورانا مقابل ديراك، فهذا أمر مُعقَّد إلى حدّ ما. يتعلّق الأمر بتحديد فيما إذا كان النيوترينو (وبالتحديد، حالتُه الكموميّة ذات القيمة المُحدَّدة للكتلة) مُطابقًا لمُضادّه.

إذا كان ترتيب الكتلة مقلوبًا، فهناك تحللات بيتا المضاعَفة دون إصدار نترينو NeutrinoLess Double Beta Decay (0υββ). توجد نَوى خاصّة يمكنها عندما تُجري تحلُّلَ بيتا الإشعاعي مُصدِرةً إلكترون ونيوترينو أن تعود وتمتصَّ الأخير -من خلال تحلّل بيتا المعاكِس- إذا كان النيوترينو مُطابِقًا لمضادّه، أي في حال كان النيوترينو ومضادُّه الجسيمَ نفسَه أمكن لفئة مُحدّدة من النوى أن ينبعث منها إلكترون عندما تتحلّل مع نيوترينو تقوم بامتصاصِه بسبب كونه جسيمًا مضادًا وينبعث إلكترون آخر عند هذا الامتصاص. هذه هي تحللات بيتا المُضاعَفة دون إصدار نيوترينو. سيكون للتجارب المستقبليّة حساسية تسمح بتحديد وجود مثل هذه التحلّلات. كما تعلم، تحاول بعض التجارب تحديد كتلة النيوترينو من خلال دراسة كيفية انبعاث الإلكترونات ذات الطاقات الأعلى في تحلّل التريتيوم، فتُسمّى تجارب نقطة النهايةendpoint ، وهي تجارب فريدة وصعبة الإنجاز إلى حدّ كبير. فإذا كان ترتيب الكتل معكوسًا -وهذا أمرٌ سنعلمه من DUNE أو في نهاية المطاف منJUNO فإن هناك إمكانية لأن تكونَ تجارِبُ نقطة النهاية حسّاسةً للغاية وقادرةً على إصدارٍ إفادةٍ حاسمةٍ بشأن ما إذا كانت النيوترينُوات ذاتَ طبيعة ديراك أم ماجورانا، لأنها ستلاحظ عمليّات تحلّل 0υββ المُنتِجة لأشعة بيتا -أي إلكترونات-ذات العلامة الفارقة. إنه قياس دقيق جدًا، ولكن أهمية الترتيب المعكوس تنجم عن أن مثل هذه التجارب قادرة في حالته على الإقرار برصد تحلّل 0υββ الموافِق للعائلة الثالثة أم لا.

أمّا إذا كان الترتيب طبيعيًا، فإن عمليات تحلّل 0υββ هذه يمكن أن تكون في أي مكان، وقد يتجاوز كشفُها حساسيةَ الجيل القادم من التجارب، وقد لا نعرف أبدًا �-في حال كانت الكتلة صغيرة جدًا- من حيث أن هذه التجارب لن تقدر على استشعار تحلُّل الـ0υββ.

تحلّل بيتا المُضاعَف دون إصدار نيوترينو

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/3/34/Double_beta_decay_feynman.svg/375px-Double_beta_decay_feynman.svg.png

 

 

دانا: في رأيكِ، ما الذي يحتاجه العالم العربي لتطوير العلوم؟ هل هو التمويل، التعليم أم رفع الوعي بأهمية العلوم؟


ماري: أعتقد أنه يحتاج إلى جميع هذه العوامِل الثلاثة. بالرغم من تشرُّفي بحيازة جائزة الـ Breakthrough كعضوة في فريق عمل تجربة DayaBay، إلا أنني كنتُ مجرّدَ شخصٍ واحِد من أصل 200، ولم أُسهِم شخصيًّا بشكل كبير في تلك التجربة، ولكن من خلال مشاركتي فيها، رأيت كيف تطوّرت الصين -هذا البلد الضخم- بشكلٍ كبيرٍ وسريع جدًا في العلوم الأساسية. وبالمثل نرى كيف تقدّمت بعض البلدان النامية مثل البرازيل والهند المُشاركة في تجربة DUNE في هذه العلوم.

أعتقد أن العالم العربي متأخر قليلاً في مجال العلوم الأساسية، ولكن المالَ وحدَه ليس الحل. أعتقد أن فيزياء الجسيمات تُشكِّل حالةً فريدةً من حيث إمكانيّة الانضمام إلى أي من هذه التجارب الضخمة -سواء في CERN أو DUNE أو تجارب أخرى في الولايات المتحدة- بتكلفة متواضعة. نعم، أنتَ بحاجة إلى بعض المال تدفعه مقابل الانضمام، ولكن يمكنك الوصول إلى كل تلك الخبرة ومجمل تلك البيانات باستثمارٍ متواضع، صحيح؟ نفقةٌ قليلة ولكن لا يمكن أن تكون صفرًا، فغالبيّتنا في معظم الدول العربية قد تقول: "نحن فقراء، أعطونا هذا" .... لا، لا تجري الأمور هكذا، بل على البلاد العربيّة أن تقبل بالقيام باستثمارٍ متواضعٍ نسبيًّا، وفيزياءُ الجسيمات فريدة في هذا الصدد. إنها تقدم لك فرصةً الانضمام كمهندس وليس فقط كعالِم، فهناك الكثير من الهندسة وتصميم الأجهزة هناك، كما أن هناك فرصةً لمشاركة العلماء في كثير من العلوم الحسابية، ولكنْ كلُّ ذلك يحتاج بعضَ الاستثمار ويتطلّب السماحَ بالسفر والقدرةَ عليه.

يجب أن تكون قادرًا على دفع تمويل مشترك، من رتبة عدةِ آلاف دولار لكل طالب دكتوراة لضمان إمكانيّة الوصول إلى المعطيات كجزءٍ من فريق العمل. إذن، التمويل ليس المشكلة في مجال فيزياء الجسيمات، التي تتطلب بعض الإنفاق، ولكنها تقدِّم فرصًا فريدة، لذا يجب أن نكون مستعدين لذلك.

�هناك عدة دول عربية وأفريقيّة مثل المغرب والجزائر ومصر وجنوب أفريقيا لها مشاركة كبيرة في المصادِم الهادروني الكبير(LHC) �في السيرن، ودول صغيرة مثل مدغشقر تشارك في مشروع DUNE. إذن هذه الدول مُشارِكة، ولكنها لا تحصل دائمًا على المبالغ المتواضعة -ولكن الغير معدومة- المطلوبة لإرسال المزيد من الطلاب.

لا يوجد الكثير من الفهم للطبيعة التعاونية في بحوث فيزياء الجسيمات، ومن الصعب جدًا تبريرُها لوكالة التمويل الخاصّة بكَ، عندما تطلب منها -مثلًا- عدّةَ آلاف دولار لكي تشارك في تجربة معينة. لذا، يجب تغيير هذه المفاهيم، ويجب أن تتغيرَ لأن هناك فرصةً رائعة للانضمام إلى مثل مشاريع التجارب الضخمة هذه، وجزءٌ ممّا يجب تغييره هو فهمُ احتياجِ إنجازاتِها الهندسية وعلومِها الحسابية ومجموعةِ المهارات المُكتسَبة من خلال الانضمام لها والمشاركة بها إلى استخدام المعرفة في العلوم الأساسيّة.

الانضمام وحده لا يكفي، بل يتطلب أيضًا مزيدًا من المشاركة ومساهمةً أكبر من جانب مجموعات بحثيّة، وهذا يستغرق كلُّه وقتًا، ولكن البداية الأولى تكمن في إقناع الحكومة بأن هذه فرصةٌ فريدة -يمكن تحمُّل تكلفتها بشكل معقول- لأن نكونَ جزءًا من إنجاز هندسي وعلمي لا يُصدَّق ولاكتساب مجموعة من المهارات القيمة جدًا التي لن تستطيع الحصول عليها في أي مكان آخر.

 

 

عادل: لنعد مرة أخرى إلى فيزياء الجسيمات. هل ستساعدنا معرفة المزيد عن فيزياء النيوترينو في فهم المزيد عن الفيزياء خارج النموذج القياسي؟ إذا كانت الإجابة بنعم، فكيف يحدث ذلك؟ يتعلِّق السؤال بالفيزياء خارج التوسِعة البسيطة للنموذج القياسي المتضمِّنة لكتل النيوترينُوات.

 

ماري: إذن، تقع النيوترينُوات فعلًا خارج النموذج القياسي لأننا لا نفهمها، لذلك حتى التوسعة البسيطة للنموذج القياسي لديها بعض التنبُّؤات التي يمكن اختبارها. هناك البعض - في تجارب من مثل DUNE وتجارب أخرى في CERN- يبحث عن أشياءَ من مثل ما ندعوه لبتوناتٍ حياديةً ثقيلة يمكن أن تكون جزءًا من تلك النماذج المسماة "بنماذج الأرجوحة seesaw" والتي تمثل توسعةً للنموذج القياسي.

لذلك، أعتقد أنه إذا عدنا إلى الأساسيات، فقط لشرح السبب وراء وقوع النيوترينُوات خارج النموذج القياسي، فإننا نعلم- عد اكتشاف جسيم الهيغز بكتلةٍ قريبةٍ ممّا تنبأ به النموذج القياسي انطلاقًا من كتلة بوزوناتW&Z - أن هناك آليةً لتوليد كتلة الجسيمات، لكن النيوترينو أخف بمقدار مليونَي مرة على الأقل من أخفّ جسيم -وهو الإلكترون-، ما يعني أنه لا يمكن الحصول على كتلته مباشرة من بوزون هيغز.

لذا، هناك نظريات تتوقّع وجودَ نيوترينو من نوعٍ جديد، لِبتون حيادي ولكن ثقيل و"عقيم"، أي لا يتفاعل مع المادة العادية، بل يتّصل بواسطة فيزياء جديدة لا نعرفها -تُسمّى آليّة الأرجوحة- بالنيوترينو الخفيف الذي نراه. لذا، هناك توقّعات بإمكانية مشاهدة هذه اللِّبتونات الحيادية الثقيلة، وبعضُ باحثي الـ DUNEأو حتى تجارب الـ LHC يبحثون عن أدلّة على ذلك.

يمكن للنيوترينُوات أيضًا أن تكون جزءًا من مشهد الجسيمات وفق التناظر الفائق Suzy، وإن كانت هذه الإمكانيّة شيئًا فشيئًا تُستبعَد.

السؤال الأكبر بالطبع هو انتهاك تناظر الـ CP (الشفعيّة-قرن الشحنة)، وهو ما يؤدي إلى تخالف المادة عن المادة المضادة. يمكن النظر للنيوترينو -فيما يخصّ تذبذباته واهتزازاته- كمقياس تداخُل. نقوم في الـ DUNE بإنتاج نيوترينُوات ميونيّة تقطع مسافةَ 1300 كيلومتر معانيةً اهتزازًا ينقلها إلى نيوترينُوات إلكترونيّة تتآثر مع الأرض. يخمّن البعضُ بسبب انتقالها عبر 1300 كيلومتر بأن هذه النيوترينُوات يمكن أن تتحسّس لتفاعلاتٍ ضعيفةٍ أضعف بكثير من أضعف قوة نعرفها الآن، فيمكن لذلك أن يغيّر نمط التداخل. لذا، يمكن للنيوترينو أن يحاكِي دور مقياس تداخل يبحث عن تفاعلات جديدة ضعيفة جدًا قد تظهر عن طريق تغيير نمط الاهتزاز بين نيوترينُوَي الميون والإلكترون المُعبِّر عن تداخلٍ بين حالات كموميّة، فيمكن للقوى الموافقة لهذه التآثرات الجديدة الضعيفة أن تتجلّى كتغيّرات على ما نتوقّعه من النموذج القياسي الحالي للنترينُوات.

�هناك البعض ممّن يستخدم تجارب النيوترينو بسبب ضخامتِها وعميقها السحيق تحت الأرض للبحث عن تحلّل البروتون. في الواقع، هناك قصة طريفة حول تجارب النيوترينو التي فازت بجائزة نوبل مثلSuper-KamioKande في اليابان، إذ أنها بدأت أصلًا بهدف دراسة تحلّل البروتون وكانت النيوترينُوات تُشكِّل الخلفيّةَ، وانتهى الأمرُ باكتشاف تذبذبات النيوترينو وغدا ذلك الفيزياء الرئيسة، والجديدة خارج النموذج القياسي. ولكننا لا نزال نبحث عن تحلّل البروتون ذي عمر الحياة الطويل جدًا -إن كان منتهيًا- كما يتوقَّع النموذج القياسي. إذا رأيتَ حادثةَ تحلّل بروتون واحد في أيٍّ من هذه الكواشف الضخمة جدًا، فهذا يُعتبر فيزياءَ خارج النموذج القياسي.

هناك أشخاص يبحثون عن المادة المظلمة، التي يفني بعضُها بعضًا -ولنقل في الشمس- ما يُنتِج نيوترينُوات يمكن كشفُها في الكواشِف الكبيرة، مثل كاشف المكعَّب الجليدي في القطب الجنوبي الذي يُعَدّ واحدًا من أروع تجارب النيوترينو التي يمكن أن تتخيلها، يبحث عن نيوترينُوات ذات طاقة عالية جدًا وبما ينعكس على الفيزياء الفلكيّة. يمكنك أيضًا البحث عن بصماتٍ للمادة المظلمة التي تُنتِج النيوترينو. إذن، هذه أمثلة أخرى على مجالات نشطةٍ جدًا حيث يمكنك استخدام تجارب النيوترينو لاستقصاء الفيزياء خارج النموذج القياسي.

 

 

دانا: حسنًا، بعيدًا عن الفيزياء. في وقت فراغكِ، هل لديكِ أيّ هوايات؟ قرأتُ أنك معجبة بالاستماع إلى الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية. هل تعتقدين أن وجودَ وقتٍ للتسلية أمرٌ مفيد عندما يعمل الشخص بدوامٍ كامل غارقًا في العلم؟

 

ماري: لا يمكنكَ أن تكون فيزيائيَّ جسيماتٍ ناجحًا دون أن تمتلكَ حياةً فكريّة عميقة. أعتقد أنه من أجل عملِنا وقيادتنا لمئات الأشخاص نحتاج إلى فهم الإنسانية، ولا يوجد شيء أفضل لذلك من الأدب والفنون.

علاوةً على ذلك، تحتاج كفيزيائيّ لامتلاكِ خيال نَشِط يسمح لك بترجمة لغة الطبيعة -ألا وهي الرياضيات- إلى مفاهيم يمكن للإنسان فهمُها. لتحقيق التقدم وتجاوز ما هو موجود، نحتاج حياةً فكرية شاملة تتجاوز العلم، لأنه هكذا نستطيع تطوير مهاراتِنا، ولا أقصد هنا فقط مهارات التواصل وإنما مهارات التخيّل، التي نحتاجها لترجمة لغة الطبيعة المعقدة، أي الرياضيات.

�ريتشارد فينمان الفيزيائي الشهير كان مشهورًا جدًا بأخذ هذه المفاهيم المعقدة جدًا: صيغ رياضية صعبة جدًا تتعلّق بالتآثرات الكهروضعيفة، وبرسم مخطّطات توضيحية، وغدا مشهورًا جدًا بذلك. علاوةً على ذلك، ذهب إلى البرازيل لمدة عام لأنه أراد أن يتعلم كيف يعزف على الطبول في الكرنفال.

نعرف جميعًا أن أينشتاين كان موسيقيّاً وكان يحبّ الرسم وشرودينجر أيضًا. جميع هؤلاء كانت لديهم هوايات واهتمامات، بسبب هذا الارتباط العميق بين الخيال وما يطوّره الفن والأدب من أجل تحقيقِ فهمٍ للإنسانية تحتاجه عندما تعمل مع أعداد كبيرة من الناس مثلما تحتاج -بالقدر نفسه من الأهميّة- مهاراتٍ تواصليةً معهم.

�تميل جميعُ العلوم تقريبًا، وليس مجرّد فيزياء الجسيمات، إلى أن تكون تشاركيّةً على نطاق أوسع. تتطور جميع العلوم الحديثة تقريبًا من خلال جهودٍ تعاونية، وهذه الجهود تعني أن البشرَ المتعاملين مع بعضهم البعض يأتون من خلفيّات متباينةٍ جدًا. ولهذا السبب تحتاج إلى حياة ثرية من أجل أن تغدُوَ عالِمًا أفضل.

نعم، أنا أحب الأوبرا وكنت أتعلّم الموسيقى الكلاسيكية، فدرستُ العزفَ على البيانو عندما كنت طفلة. مرة أخرى، بفضل والِدَيّ. أعتقد أنه في ذلك الوقت كانوا يبثّون على التلفزيون المصري بقناتَيه -حينئذٍ- أوبرا كلّ شهر على القناة 2، وغدوتُ مدمنةً عليها لأنني بالفعل أحب الموسيقى الكلاسيكية.

وبعد ذلك، عندما جئت إلى الولايات المتحدة كطالبةِ دراسات عليا، كنت أستمع إلى الأوبرا على الراديو أيّامَ السبت، حيث كانوا يذيعون مباشرة من أوبرا ميتروبوليتان في نيويورك، وأحيانًا من أوبرا ليريك في شيكاغو. بالطبع، كنتُ فقيرةً كطالبة دراسات عليا من أجل حضور عروض أوبرا، كما لم أعِش قرب أيّ مدينة كبيرة، لذا، كنت أستمع إلى بثّ الراديو. الآن لديهم بالفعل بثٌّ في السينما، حيث يمكنكَ الذهاب إلى دار السينما ومشاهدة الأوبرا بتكلفة أقل بكثير من تذكرة الأوبرا، ولكن في زمني كان الراديو. الآن يمكنني الذهاب ومشاهدة هذه الأوبرا شخصياً.

 


عادل: من المفترض أن يكون هذا سؤالًا من أحد قرّائِنا. من ضمن إنجازاتِك العديدة، مُنِحتِ بالمشاركة مع أعضاء فريق عمل تجربة دايا بايDayaBay جائزةَ الكشف-الاختراق (البريكثرو Breakthrough) في العلوم الأساسية في عام 2016. ماذا يعني لك الفوز بهذه الجائزة "المرموقة"؟

 

ماري: بصراحة، شعرتُ بالمزيد من التكريم والتشرُّف عندما حزتُ الزمالةَ في الجمعية الفيزيائية الأمريكية، حيث كانت جائزةً بشكلٍ مباشَر عن عملي في فهم الكواركات والنيوترينُوات.

ما عنَتْه جائزة البريكثرو عندها هو أنها كانت أوّل مرّة تُمنح فيها جائزةٌ تكريميّة تُقِر بأن علمَنا ثمرةُ جهودٍ تعاونيّة. لذلك، على الرغم من أنني لم أكن مشاركة رئيسيّة في تجربة داياباي بأي حال من الأحوال، تمّ منحي هذه الجائزة كعضوٍ من فريق هذا التعاون العلمي الذي يضم أكثر من 200 شخص من كلّ مكان. أعني، إنه مشروع قائم في الصين، ولكنه ضمّ باحثين من الصين والولايات المتحدة وأوروبا، حاولوا جميعًا فهمَ بعض الحقائق الأساسية عن النيوترينو.

�في الواقِع، تمّ الإعلان عن نتائج تجربة داياباي في العام نفسِه -2012- الذي تمّ فيه اكتشاف جسيم الهيجز، ويُعتبر كلا هذَين الكشفَين (جسيم الهيغز وقياس داياباي ) في مجالنا� حدثًا إبداعيّاً على القدر نفسِه من الأهميّة.

أعتقد أن هذا هو ما تعنيه لي جائزة البريكثرو. إنها المرة الأولى التي تعترف فيها جائزةٌ علمية رئيسية بأن العلمَ هو جهدٌ تعاوني وأنه يستلزم مئاتَ الأشخاص. بالطبع، لتحقيق إنجازٍ رئيسي، يوجد بعض القادة الذين صاغوا الفكرة، ولكنّ جعلَ هذه الفكرة ممكنةً لهو مشروعٌ ضخمٌ جدًا. هذه هي قيمة تلك الجائزة وما تعنيه بالنسبة لي.

 

 

عادل: شكرًا جزيلاً، الأستاذة ماري، على منحنا هذه الفرصة الرائعة من وقتِكِ الكريم لإجراء مقابلة معكِ.

 

ماري: الشكر الجزيل. أشكركما على منحي هذه الفرصة.

 

ماري بيشاي مع عادل عوض ودانا عبد الغني

الخلايا الشمسية: طاقة المستقبل النظيفة والمستدامة

مصطفى الأعصر

أستاذ في قسم الفيزياء � كلية العلوم � جامعة عين شمس

مقدمة

تعتبر الطاقة الشمسية مصدرًا نظيفًا ووفيرًا ومتجددًا للطاقة الآمنة غير المحدودة، كما أن لديها القدرة على تقليل الاعتماد العالمي على الوقود الأحفوري بشكل كبير. تقوم الخلايا الشمسية (تسمى أيضا بالخلايا الكهروضوئية PV) بتحويل الطاقة الشمسية الى طاقة كهربائيّة يمكن استخدامها في أنشطة الانسان اليومية المختلفة على المستوى الفردي والزراعي والصناعي ...الخ. والجدير بالذكر أن ظهور مشكلة تغير المناخ والتأثيرات البيئية لمصادر الطاقة التقليدية أدى إلى استثمارات وأبحاث كثيرة في تكنولوجيا الطاقة الكهروضوئية.

تُعَدّ الطاقةُ المنبعثة من الشمس واحدةً من أكثر الموارد المتاحة للبشرية وفرةً واستدامة. يبلغ متوسط الطاقة الشمسية التي تسقط على سطح الأرض حوالي 1000 واط لكل متر مربع (W/m�). يمثل هذا الرقم كمية هائلة من الطاقة، قادرة على تلبية -بل وحتى تجاوز- جميع احتياجات الطاقة البشرية إلى أجل غير مسمى.

تتلقى الأرض حوالي 174 بيتا واط (PW) من الإشعاع الشمسي القادم في الغلاف الجوي العلوي. ينعكس ما يقرب من 30٪ من هذه الطاقة إلى الفضاء، بينما يُمتَصّ الباقي في الغلاف الجوي والمحيطات والكتل الأرضية. على الرغم من هذا الانعكاس والامتصاص، فإن كمية الطاقة الشمسية التي تصل إلى سطح الأرض لا تزال مذهلة. في المتوسط، يتلقى كل متر مربع من سطح الأرض حوالي 1000 واط/م� من الطاقة الشمسية خلال ساعات النهار. يكون تدفق الطاقة هذا كبيرًا عند النظر في مساحة السطح الواسعة المتاحة لتلقي الطاقة الشمسية. على سبيل المثال، بلغ الاستهلاك العالمي للطاقة في عام 2021 حوالي 580 إكسا جول (EJ)، حيث يعادل الإكسا جول الواحد 277 تيراواط/ ساعة. ومن الجدير بالذكر تخيُّل حقيقة أن الطاقة الشمسية التي تضرب سطح الأرض في ساعة واحدة فقط تتجاوز الاستهلاك السنوي للطاقة لجميع الأنشطة البشرية. وهذا يبين لنا كيف أن هذه الطاقة كنز يجب استغلاله على المستوى الإقليمي والعالمي.

ولعل بعض الأسباب الرئيسية التي تعطي الطاقة الشمسية أهميتها هي الاستدامة، وأنها نظيفة وصديقة للبيئة، ولها كثيرٌ من الفوائد الاقتصادية، وتطبيقاتُها متنوعةٌ بمقاييس مختلفة وقدرات كهربية مختلفة، كما أنها في تطوّرٍ مستمرّ حتى تصبح أكثر كفاءة وموثوقية، وهي رخيصة التكلفة على المدى البعيد، ما يجعلها تحلّ محلَّ المصادر الأخرى وخصوصا في الأزمات.

وقد أدركت الكثير من الدول الأهمية الاستراتيجية للطاقة الشمسية على مستوى العالم، حيث تقوم بدمجها في تخطيطاتها وسياساتها المستقبلية للطاقة لضمان حلول\ِ طاقة مستدامة ونظيفة وفعالة. ويعتبر هذا الأمرُ بالغَ الأهمية للحد من التأثير البيئي وتعزيز النمو الاقتصادي وتحسين نوعية الحياة على النطاق العالمي.

تستعرض هذه المقالة التطورَ التاريخي والحالة الراهنة والتوجهات المستقبلية لتكنولوجيا الخلايا الشمسية، مع التركيز على بعض المبادئ والأسس الفيزيائية للخلايا الشمسية، واهمية التكامل بين الدول في شبكة طاقة إقليمية أو عالمية موحدة.

ماهي الخلايا الشمسية: هي أجهزة (نبائط) إلكتروضوئية (Optoelectronic) ذات تصميم خاص لتحويل ضوء الشمس مباشرة إلى كهرباء مستمرة.

التطور التاريخي والتقدم التكنولوجي للخلايا الشمسية

- الاكتشافات المبكرة (1839-1954): لوحظ التأثير الكهروضوئي لأول مرة من قبل ألكسندر إدموند بيكريل في عام 1839. ومع ذلك، لم تتحقق التطبيقات العملية لهذا الاكتشاف حتى منتصف القرن العشرين مع تطوير الخلية الكهروضوئية السيليكونية من قبل مختبرات بيل في عام 1954، مما يمثل بداية الخلايا الشمسية الحديثة.

- ثم تلى ذلك عصرُ السيليكون (1954 إلى الوقت الحاضر) حيث سيطر السيليكون باعتباره المادة الأساسية للخلايا الشمسية نظرًا لوفرته وخصائصه شبه الموصلة. وقد كان التطور من السيليكون أحادي البلورة إلى السيليكون متعدد البلورات مدفوعًا بالحاجة إلى خفض التكلفة وتعزيز الكفاءة.

- ثم توالت الأنواع الأخرى من الخلايا، حيث ظهر مفهوم خلايا الأغشية الرقيقة في السبعينات وتجاريا في الثمانينات، وتستخدم هذه الخلايا طبقاتٍ من المواد شبه الموصلة بسماكة بضعة ميكرومترات مثل خلايا تيلورايد الكادميوم و CIGS التي ظهرت في تسعينات القرن العشرين. وكان الدافعَ وراء ذلك تقليلُ استهلاك المواد وبالتالي انخفاضُ تكاليفها وتحقيقُ مرونةٍ أكبر مقارنة بخلايا السيليكون التقليدية.

- الخلايا الكهروضوئية العضوية والهجينة الحيوية: استكشفت الابتكاراتُ في الخلايا الكهروضوئية العضوية والأنظمة الهجينة الحيوية إمكانيّةَ استخدام المواد العضوية وأنظمة التمثيل الضوئي لتعزيز امتصاص الضوء وكفاءة التحويل. وكان أول ظهور لأبحاث خلايا المواد العضوية في الخمسينات الا أن التطور في كفاءتها لم يشاهد إلاّ في التسعينات وبداية ألفينات القرن الحادي والعشرين (2000s)، ولازالت تلك الخلايا في طور التطوير حتى تنافس مثيلاتها من السيليكون.

- خلايا البيروفسكايت الشمسية: برزت خلايا البيروفسكايت الشمسية كتقنية واعدة، وحققت اختراقات كبيرة في الكفاءة في عقد واحد (10 سنوات)، حيث تجاوزت 25٪ في المختبرات، وقد ظهرت خلايا البيروفسكيت في 2009 ولاتزال في طور التطوير والأبحاث للوصول الى عمر افتراضي كبير يقارن بخلايا السيليكون، والجدير بالذكر أن انخفاض تكاليف التصنيع وخصائص الامتصاص الممتازة لهذه الخلايا تجعلها بديلاً مستقبليًا قابلاً للتطبيق.

التركيب الأساسي لخلية السيليكون البلوري

تُعتبر خليةُ السيليكون الشمسية، والمعروفة أيضًا باسم الخلية الشمسية المصنوعة من السيليكون البلوري (c-Si)، النوعَ الأكثر استخدامًا من الخلايا الكهروضوئية نظرًا لكفاءتها العالية واستقرارها على مدى زمني طويل. يتضمن الهيكلُ الأساسي لخلية السيليكون الشمسية (شكل 1) عدةَ طبقات ومكوناتٍ رئيسية، لكلٍّ منها وظيفة محددة في عملية تحويل ضوء الشمس إلى كهرباء، ألا وهي:

أقطاب التوصيل الأمامية (خطوط الشبكة): غالبا ما تصنع من الفضة (Ag) ودورها هو توصيل الكهرباء المُولَّدة خارج الخلية. تُصمَّم على هيئة شبكةٍ لتقليل تأثير التظليل السلبي مع توفير مقاومة منخفضة للتيار.

الطلاء المضاد للانعكاس (ARC): يُصنع من نيتريد السيليكون (SiNx) أو ثاني أكسيد التيتانيوم (TiO2) والهدف منه تقليل انعكاس ضوء الشمس عن سطح الخلية، ممّا يسمح بدخول المزيد من الضوء إلى الخلية وزيادة الكفاءة.

طبقة السيليكون من النوع N: وهي سيليكون مشبع بالفوسفور (أو عنصر خماسي التكافؤ) وتحمل فائضًا كبيرًا من الإلكترونات (حاملات الشحنة السالبة) في الطبقة العليا للخلية، ممّا يشكل الجانب السالب من الوصلة p-n.

طبقة السيليكون من النوع P: وهي طبقة من السيليكون المُشبَع بالبورون (أو عنصر ثلاثي التكافؤ) وتحمل فائضًا كبيرا من الفجوات (حاملات الشحنة الموجبة) في الطبقة السفلية للخلية، ممّا يشكِّل الجانب الموجب من الوصلة p-n.

طبقة حقل السطح الخلفي (BSF): وهي طبقة من الألومنيوم أو السيليكون من النوع p المشبع بشكل كبير جدًّا (p+) والذي بدوره يقلل من إعادة اتحاد الإلكترونات الفجوات على السطح الخلفي، مما يعزِّز كفاءة الخلية عن طريق عكس الإلكترونات مرة أخرى إلى الخلية.

أقطاب التوصيل الخلفية: تكون من الألومنيوم (Al) وتقوم بتوصيل الكهرباء المُولَّدة في الخلية إلى دائرة خارجية كما توفر الدعم الهيكلي.

شكل 1. الهيكل الأساسي لخلية السيليكون البلوري

 

مبدأ عمل خلية السيليكون الشمسية

يتم تصميم الهيكل الأساسي لخلية السيليكون الشمسية بهدف حصد أكبر كمية من ضوء الشمس وتحويله إلى طاقة كهربائية. لكل طبقة دور أو وظيفة محددة تساهم في الأداء الكلي للخلية وتحديد كفاءتها. يُعدّ فهم هذا الهيكل أمرًا أساسيًا لتطوير تكنولوجيا الخلايا الشمسية وتحسين كفاءة أنظمة الطاقة الشمسية. وكي تتحول الطاقة من النطاق الضوئي الى النطاق الكهربي هناك بعض العمليات التي تتم في الخلية، ألا وهي امتصاص الفوتونات وتوليد أزواج من الإلكترون-فجوة وفصل الشحنات عن بعضها ثم الانجراف (drift) والانتثار(diffusion) ثم تجميع ناقلات الشحن - بتناسقٍ لتحويل ضوء الشمس إلى طاقة كهربائية. إن فهم هذه العمليات يساعد في تحسين تصميم وكفاءة الخلايا الشمسية، مما يمهّد الطريق لتقنيات طاقة شمسية أكثر فعالية.

ولذلك عندما يضرب ضوءُ الشمس الخليةَ الشمسية المصنوعة من السيليكون، تحدث العمليات الفيزيائية التالية:

امتصاص الفوتونات: تمتص طبقات السيليكون الفوتونات (ذات طاقة فجوة النطاق) من ضوء الشمس، مما يؤدي إلى توليد أزواج من الإلكترونات والفجوات في حالة من الارتباط (تسمى الإكسيتونات).

فصل الشحنات: يعمل المجال الكهربائي (قوة تدفع الشحنات الموجبة في اتجاه المجال والسالبة عكس المجال) عند الوصلة p-n على فصل أزواج الإلكترون-فجوة، مما يؤدي إلى دفع الإلكترونات نحو طبقة n-type والثقوب نحو طبقة p-type

الانجراف والانتثار: تتحرك ناقلات الشحنة المنفصلة خلال مادة السيليكون عبر آليتين:

  1. الانجراف: حركة ناقلات الشحنة بسبب المجال الكهربائي في منطقة الاستنزاف (الناضبة depletion) .
  2. الانتثار: حركة ناقلات الشحنة بسبب تدرج تركيزها خارج منطقة الاستنزاف.

تجميع الشحنات: يتم تجميع الشحنات المنفصلة بواسطة أقطاب التوصيل الأمامية والخلفية. تتدفق الإلكترونات عبر الدائرة الخارجية، بينما تتدفق الفجوات إلى جهة الاتصال الخلفية لتوليد تيار كهربائي.

المعاملات الكهربية للخلية الشمسية

تعتبر المعاملات الكهربية الرئيسية للخلية الشمسية ( تيار الدائرة القصيرة (Isc)، وجهد الدائرة المفتوحة (Voc)، ونقطة الطاقة القصوى (Pm)، والتيار والجهد عند أقصى نقطة طاقة (Im و Vm)، ومعامل التعبئة (FF)، والكفاءة (η)، ومقاومة التوالي (Rs)، ومقاومة التحويل (Rsh) ) ضرورية جدا لفهم أداء الخلية وتحسينه.

توفر هذه المعاملات رؤى حول كفاءة الخلية الشمسية وسلوكها في ظل ظروف مختلفة. وفيما يلي أهم تلك المعاملات:

  1. تيار الدائرة القصيرة (Isc): هو التيار المار عبر الخلية الشمسية عندما تكون أطراف الخرج تمثِّل دائرةً قصيرةً (دارة قصْرٍ) بدون مقاومة (أي عندما يكون الجهد عبر الخلية صفرًا).وهو يمثل الحد الأقصى للتيار الذي يمكن أن تنتجه الخلية في ظل ظروف الاختبار القياسية (STC). Isc يتناسب طردًا مع شدة الضوء الساقط ومع مساحة سطح الخلية.
  2. الجهد في حالة الدائرة المفتوحة (Voc): هو جهد الخلية الشمسية عندما تكون أطراف الخرج مفتوحة (أي عندما يكون التيار المار عبر الخلية صفرًا). ويشير إلى أقصى جهد يمكن أن تنتجه الخلية تحت STC. يتأثر Voc بخصائص المادة ودرجة حرارة الخلية.
  3. القدرة النظرية: وهي حاصل ضرب Voc و Isc، حيث لا يمكن الوصول اليها، والقدرة الفعلية للخلية دائما أقل منها.
  4. نقطة الطاقة القصوى (Pm): هي نقطة على منحنى I-V حيث يكون حاصل ضرب التيار والجهد هو الحد الأقصى، ويمثل أعلى طاقة يمكن أن توفرها الخلية. يعتبر Pm هامّا في تحديد كفاءة الخلية الشمسية ويمكن حسابها باستخدام العلاقة ���Pm = VmIm
  5. عامل التعبئة (FF): هو النسبة بين أقصى نقطة طاقة (Pm) إلى القدرة النظرية، ويشير إلى جودة الخلية الشمسية، حيث تُشير قيمةٌ أعلى له إلى خلية شمسية أكثر كفاءة.
  6. الكفاءة (η): نسبة خرج القدرة الكهربائية (Pm) إلى طاقة الضوء الساقط، وهي تقيس الكفاءة ومدى فعالية الخلية الشمسية في تحويل ضوء الشمس إلى طاقة كهربية. تشير الكفاءة الأعلى إلى خلية شمسية أفضل أداءً.
  7. مقاومة السلسلة (على التسلسل) (Rs): هي المقاومة التي يواجهها التيار المتدفق عبر الخلية الشمسية، بما في ذلك أقطاب التوصيل والمادة نفسها. تقلّل المقاومةُ على التسلسل العاليةُ من عامل التعبئة والكفاءة الإجمالية، وتؤثر على ميل منحنى I-V بالقرب من تيار الدائرة القصيرة.
  8. مقاومة التوازي (Rsh): وتمثل المقاومة عبر أطراف الخلية الشمسية بسبب تيارات التسرب. تُعتبر مقاومةُ التوازي العاليةُ مرغوبةً لأنها تقلل من تيار التسرب وتحسِّن عامل التعبئة والكفاءة. تتسبب مقاومة التوازي المنخفضة في فقد الطاقة وتقليل Voc.
  9. معاملات درجة الحرارة: وهي التي تصف كيف يتغير Voc و Isc والكفاءة مع درجة الحرارة، إذ يعتمد أداء الخلية الشمسية على درجة الحرارة. عادةً ما يتناقص Voc مع زيادة درجة الحرارة، بينما يزداد Isc بشكل طفيف.

تساعد هذه المعاملات في تقييم فعالية الخلايا الشمسية وتصميم أنظمة الطاقة الشمسية لتحقيق أقصى إنتاج ٍللطاقة.

الحدود القصوى النظرية لكفاءة الخلايا الشمسية

الحد النظري الأقصى لكفاءة الخلايا الشمسية هو مفهوم حاسم في أبحاث الطاقة الكهروضوئية لأنه يحدِّد الإمكانات والقيود للمواد والتقنيات الحالية، كما يرشد الى تطوير ابتكارات جديدة مثل الخلايا الترادفية (Tandem cells) لتسخير الطاقة الشمسية بشكل أفضل.

يُشير الحدّ النظري لكفاءة الخلايا الشمسية، والذي غالبًا ما تتم الإشارة إليه في سياق حد شوكلي � كوايسر (Shockley-Queisser)، إلى الحد الأقصى للكفاءة التي يمكن أن تحققها الخلية الشمسية ذات الوصلة الواحدة في تحويل الطاقة الشمسية إلى كهرباء في ظل الظروف القياسية. يتمّ اشتقاق هذا الحد من مبادئ التوازن التفصيلية ويأخذ في الاعتبار العديد من العوامل الفيزيائية. تمّ حساب هذا الحد من قبل ويليام شوكلي وهانز كوايسر في عام 1961[2]، ويوفِّر تفسيرًا نظريًا مفصلاً للحد الأقصى للكفاءة التي يمكن توقعها من خلية شمسية مصنوعة من وصلة p-n واحدة تستخدم مادة شبه موصلة واحدة.

إذن ما هي العوامل التي تؤثر على هذا الحد؟

  • طاقة فجوة النطاق (Bandgap): لكل مادة شبه موصلة طاقة مميزة تسمى فجوة نطاق، وهي الفجوة بين نطاقي التكافؤ والتوصيل، لا يتم امتصاص الفوتونات التي تقل طاقتها عن فجوة النطاق وبالتالي لا تساهم في توليد الكهرباء. سوف يتمّ امتصاص الفوتونات ذات الطاقة الأكبر من فجوة النطاق، ولكن الطاقة الزائدة فوق فجوة النطاق تتحول بسرعة إلى حرارة بدلاً من الكهرباء.
  • خسائر التسخين: تضيع الطاقة الزائدة للفوتونات عالية الطاقة (الطاقة التي تزيد عن فجوة النطاق لأشباه الموصلات) كحرارة عندما تسترخي الإلكترونات المثارة إلى حافة النطاق. هذه الخسارة كبيرة، خاصة بالنسبة لأشباه الموصلات ذات طاقات فجوة النطاق المنخفضة التي يمكن أن تمتص المزيد من الطيف الشمسي.
  • الكفاءة الكمية: من الناحية المثالية، يجب أن يولِّد كلُّ فوتون ممتص زوجًا واحدًا من الإلكترونات والفجوات. ومع ذلك، لا تؤدي جميع الفوتونات الممتصة إلى توليد ناقلات شحنة بسبب طرق الخسارة المختلفة داخل هيكل الخلية.
  • خسائر إعادة الاتحاد: يمكن لحاملات الشحنة المتولدة (الإلكترونات والفجوات) أن تتحد قبل تجميعها والوصول الى الأقطاب الكهربائية. وهذا يشمل إعادة الاتحاد الإشعاعي وغير الإشعاعي.
  • فقدان الجهد: يقتصر الحد الأقصى الممكن لإخراج الجهد للخلية الشمسية على جهد فجوة النطاق لأشباه الموصلات. ومع ذلك، تعمل الخلايا الشمسية العملية بجهد أقل من هذا بسبب خصائص المواد غير المثالية وقيود التصميم العملي.

قيمة الحد النظري:

يفترض حدّ شوكلي � كوايسر أن الحد الأقصى لكفاءة خلية ذات وصلة واحدة يبلغ حوالي 33٪ في ظل ظروف الاختبار القياسية (إضاءة شمس واحدة، 25 درجة مئوية) [1]. بمعنى أنه من كل الطاقة الموجودة في ضوء الشمس (حوالي 1000 واط/م 2) التي تسقط على خلية شمسية مثالية، لا يمكن تحويل سوى 33٪ منها إلى كهرباء أي 330 واط/م2 فقط. تمتلك مادة الخلايا الشمسية الأكثر شيوعًا وهي السيليكون، فجوة نطاق تبلغ1.1 فولت، تصل الخلايا الشمسية أحادية البلورية التجارية الى كفاءة تحويل تبلغ حوالي 24٪، وبالتالي تصبح الطاقة المُحوَّلة الى كهرباء 240 واط/م2 فقط.

ما وراء الحدّ: الخلايا الشمسية الترادفية (Tandem solar cells)

سعى الباحثون الى إيجاد طريقة كي تتجاوز الخلايا حد شوكلي � كوايسر، وتوصّل الباحثون لتصميم وتصنيع خلايا شمسية متعددة الوصلات (ترادفية)، حيث تتوالى فيها وصلات متعددة من مواد ذات فجوات نطاقية مختلفة. من خلال تسخير نطاق أوسع من الإشعاع الشمسي بشكل أكثر كفاءة، تستهدف كل وصلة جزءًا مختلفًا من الطيف الشمسي، وبالتالي تقليل خسائر التسخين وتعزيز الكفاءة الكلية للخلية.

الكفاءات المحتملة للخلايا الترادفية: تشير النماذج النظرية إلى أنه من خلال الجمع الأمثل بين المواد وتصميم الوصلات، يمكن أن تحقق الخلايا الشمسية الترادفية كفاءة تتجاوز 45٪. يسمح هذا النوع من الخلايا باستخدام الطيف الشمسي بشكل أكثر اكتمالاً وكفاءة ممّا هو ممكن مع تصميمات الوصلة الواحدة.

الاتجاهات والابتكارات المستقبلية

تعزيز الكفاءة: يستمر البحث في دفع حدود كفاءة الخلايا الشمسية من خلال مواد وتصميمات خلايا جديدة. تُظهِر الخلايا متعددة الوصلات، التي تتكون من عدة وصلات (Junctions)، إمكانيّةَ التقاط أجزاء طيفية مختلفة من ضوء الشمس، وبالتالي إمكانية تحقيق معدلات كفاءة تصل الى 47.6٪ ]2[ حسب آخر تحديثات NREL.

قابلية التوسع والتأثير البيئي: يتطلب التأثير البيئي لإنتاج الخلايا الشمسية، لا سيما فيما يتعلق بالحصول على المواد والتخلص من نهاية العمر، اهتمامًا مستمرًا لضمان حلول طاقة مستدامة حقًا.

التكامل والتحديات

تكامل الشبكة: يمثل دمج الطاقة الشمسية في شبكة الطاقة الحالية تحديات كبيرة مثل التباين وتخزين ونقل الكهرباء. تتضمن الحلول تطوير أنظمة تخزين البطاريات المتقدمة وتطوير تقنيات إدارة الشبكات. في حين أن الفوائد كبيرة، فإن التكامل العالمي لشبكات الطاقة يطرح أيضًا تحديات تشمل الحاجةَ إلى استثمارات كبيرة في البنية التحتية، ومواءمة الأطر التنظيمية، وضمان الأمن السيبراني. بالإضافة إلى ذلك، يُعَدّ التعاون السياسي والاقتصادي بين الدول أمرًا بالغ الأهمية لنجاح هذا المشروع الطموح.

التحديات الاقتصادية والسياسية: على الرغم من انخفاض التكاليف، إلا أن اعتماد الطاقة الشمسية تعيقُه العوامل الاقتصادية وأطر السياسة في مختلف المناطق. وتعتبر برامج الحوافز والإعانات والدعم التنظيمي أمرًا بالغ الأهمية لمزيد من الاعتماد.

التكامل العالمي لشبكات الطاقة الكهربائية

يمثّل تكاملُ شبكات الطاقة الكهربائية على نطاق عالمي طريقًا واعدًا لتعظيم فوائد الطاقة الشمسية الكهروضوئية (PV)، وهي المصدر الرئيسي للطاقة المتجددة. يتضمن هذا التكامل ربط شبكات الطاقة الإقليمية والوطنية لإنشاء نظام كهرباء عالمي أكثر مرونة وكفاءة. ويمكن للتكامل العالمي أن يعزز فعالية وفوائد الطاقة الشمسية الكهروضوئية عن طريق تعزيز استقرار الشبكة وموثوقيتها، وخفض التكلفة والكفاءة الاقتصادية، وزيادة الاستثمار في الطاقة المتجددة، وتسهيل التقدم التكنولوجي، وتعزيز أمن الطاقة. وبذلك يكون الاعتماد على الطاقة الشمسية الكهروضوئية على نطاق واسع من خلال تكامل الشبكة العالمية ذا فوائد بيئية واجتماعية كبيرة، منها تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وبالتالي نُقلِّل من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وتلوث الهواء والآثار الصحية المرتبطة به. علاوة على ذلك، يمكن لنمو صناعة الطاقة الشمسية أن يخلق فرص عمل ويحفز التنمية الاقتصادية في المناطق الغنية بالموارد الشمسية، ممّا يساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة العالمية.

الخاتمة

يعكس تطور الخلايا الشمسية من أجهزة بسيطة إلى أنظمة متطورة وعالية الكفاءة تقدمًا علميًا وتكنولوجيًا كبيرًا. كما يبدو أن مستقبلَ الخلايا الشمسيّة واعدٌ مع استمرار الابتكارات التي تهدف إلى التغلب على التحديات الحالية وتعظيم انتشار وتوليد ونقل الطاقة الشمسية عبر شبكات عالمية موحدة في مشروع طموح للتعاون بين مختلف اقطار العالم.

المراجع

[1] William Shockley; Hans J. Queisser (March 1961). "Detailed Balance Limit of Efficiency of p-n Junction Solar Cells" (PDF). Journal of Applied Physics. 32 (3):510-519. doi:10.1063/1.1736034.

[2] https://www.nrel.gov/pv/assets/images/cell-pv-eff-mjcells.jpg

 

الشوّاش والكسوريّات حيث الفيزياء وجاذِبها العجيب

محسن زهران، أستاذ الفيزياء النظرية بكلية العلوم جامعة المنصورة، مصر

"ضاعت المملكة و قتل الملك بسبب خسارة معركة، وحدثت هذه الخسارة لأن الفارس قد هزم، وانهزم الفارس بسبب عدم اتّزان فرسه، الذي كان يعاني من حدوته، والحدوة لم تكن مُثبَّتةً بسبب مسمارٍ صدِئ"

أوّلًا: مقدّمة:

تُصنَّف الفيزياء في المرتبة الثانية بعد الرياضيات كعلم وصل إلى مرحلة منطقية قائمة على الملاحظة والتجربة واستنتاج العلاقات الرياضية التي تحكم بعض الظواهر الفيزيائية، وقد تمّ ذلك على يد العالِم الإيطالي جاليليو(1564-1642) عملاق العلم .فالعلم بشكل عام، والفيزياء بشكل خاص، مدين بشكل أساسي لهذا العالِم لقدرته الفذة على التفكير المخالف للفطرة والطبيعة الظاهرة للأشياء، ولقدرته الفائقة على تحليل حركة السقوط الحر للأجسام المختلفة الشكل والكتلة في مجال الجاذبية عندما تكون المنظومة الفيزيائية معزولةً عن محيطها. وقد اتضح ذلك عندما بيّن أنه إذا تمّ تجاهل تأثير مقاومة الهواء، فإن المطرقة تسقط بالطريقة نفسها التي تسقط بها ريشة الطائر. ثم جاء العبقري نيوتن (1642-1727) الذي صاغ قانون الجاذبية العامة القائل يأن كلّ جسيم في الكون يجذب الجسيمات الأخرى بقوة تتناسب عكسًا مع مربع المسافة التي تفصله عنها:

حيث كتلتا الجسيمَين المتجاذبَين وR المسافة بينهما وG ثابت الجاذبيّة العام. أعطى هذا القانون عموميةً لفهم الكون بأكمله وأسّس إطارًا جديدًا للفكر، حيث قدّم نيوتن في كتابه المبادئ (البرنسيبيا) فكرةَ كون الظواهر الفيزيائية محكومة عمومًا بقوانين رياضية صارمة يمكن صياغتها والتنبؤ بها. وهكذا، بدأت المعادلات الرياضية تحل محل التصورات الهندسية المعقدة، خاصة مع ابتكار طريقة التفاضل والتكامل لصياغتها. وبمجرد العثور على المعادلات الحاكمة للظواهر الطبيعية، أمكن استنباطُ العديدِ من حلولها في صيغ رياضية محكمة ومثيرة تعطي تنبّؤاتٍ حتميةً (deterministic) لأي نقطة في المستقبل.

������� وكم سيكون رائعاً أن تكون لدينا آلية يمكنها الحصول على موضع وسرعة الجسم المتحرك بدقة عالية للغاية، بدءاً من لحظة انطلاقه وفهم شروطه الأولية حتى وصوله إلى هدفه أو حالته النهائية. وتحت وطأة إنجازات نيوتن والسحر الذي بنى به أجندتَه العلمية، كانت مفرداته هي أن الكونَ إلهٌ عملاقٌ مُنظَّم، يحدِّد مستقبلَه سلفًا حاضرُه، كما كانت أحداثُه في الماضي تحكمها قوانين السببية (cause-effect rule) في أن السببَ يسبق نتيجتَه، خاصة وأن العلاقة السببية دالّةٌ متباينة (one to one map ) ، غالبًا ما تكون خطّيّةً linear ما يعني أن أيَّ خطأ في قياس الشروط الأولية لمنظومة ديناميكيّة لن يؤدي إلى أخطاء كبيرة في قياس حالته النهائية. بلغت هذه الموجة من الفلسفة المادية ذروتها بإعلان لابلاس أن كل جسيم في الكون، من أكبر نجم إلى أصغر ذرة في الكون، مقيّدٌ بالقوانين الفيزيائية التي يخضع لها، وصولا إلى أصغر التفاصيل، لِيَنتجَ لنا وبكل دقة حسابُ مستقبله وكأن القوانين المستخدمة مُنزَّهة عن الخطأ.

"لا يوجد خطأ أكبر في العلم من الاعتقاد بأن مجرّدَ إجراء عملية رياضية ما سيجعل ظاهرةً ما في الطبيعة مؤكدة "

������� لكن الأمور لم تسر كما كانت الفيزياء الكلاسيكية تأمل، وظهر العديدُ من السحب السوداء فوق إطارها الفكري، مثل النظم الفيزيائية التي تتكون من أعداد كبيرة من الجزيئات، مثل غاز في صندوق مغلق، أو رمي آلاف قطع النرد. يتم التعامل مع هذه النظم الكبيرة واللامتناهية باستخدام علم الإحصاء لربط الحالات الجزيئية للغازات بخصائصها الفيزيائية المرئية والقابلة للقياس (مثل الضغط ودرجة الحرارة) عن طريق أخذ المتوسطات أو الاحتمالات. ولذلك تم إنشاء الأساليب الإحصائية كنظيرٍ للطرق التجريبية النظرية، إذ نجحت الأخيرة في وصف النظم البسيطة بعددٍ صغيرٍ من درجات الحرية، تاركة وصف النظم الكبيرة للطرق الإحصائية، وأصبح حكمُ الطرق الإحصائية قطعيَّ الدلالة وواضحًا وجديراً بالثقة في أعمالٍ عديدة كتلك الخاصّة بشركات التأمين وأصحاب الكازينوهات.

������� ومن الواضح أنه في المواقف الحقيقية، فإن البيانات الأولية لجميع النظم الطبيعية ستكون عرضةً للشك وعدم الدقة، حتى لو تم قياسها بدقّةٍ إلى حد ما، ولكنّ افتراضَ عدم الدقة أو الجهل البسيط بالحالة الأولية للمنظومة سوف يُترجَم إلى جهلٍ بسيط ومُسيطَرٍ عليه عند تحديد الحالة النهائية أو مصير المنظومة. ولذلك فمن الطبيعي أن تتراكم الأخطاء أو عدم الدقة عند قياس حركة المنظومة مع مرور الوقت، ولكن الأهم من ذلك أنها تزيد تقريبًا بما يتناسب مع تدفق الوقت، وبالتالي يمكن تحديدها والتنبؤ بها.

������� لكن العجيب أن هناك نظمًا فيزيائية ذات هياكل وأوصاف بسيطة تمردت على فيزياء لابلاس-نيوتن وأظهرت سلوكًا بقدر كبير من الإبداع أو العشوائية الخلاّقة مع تطورها عبر الزمن. وفي مثل هذه النظم يتضاعف تأثير عدم الدقة في قياس قيم الحالة الأولية، بحيث تكون القيمةُ في لحظة وسطية مساويةً لتراكم كافة الأخطاء في لحظات سابقة في تطورها، فيصبحَ الخطأُ هو السائد وتغدو القدرةُ على التنبؤ بمصير الحالات مستحيلة. ولذلك فإن القيمة الأولية لخطأ القياس، حتى لو كانت جزءاً واحداً من المليار، سوف تتسع بسرعة إلى حد الهلاك لدرجةٍ تعصف بتحديديّة المنظومة.

ثانيًا: النظم الشوّاشة:

أهم ملامح هذه النظم هي:

-        المعادلات الرياضية الحاكمة حتميّاً تكون غير خطية (Nonlinear).

-        لها حساسية مفرطة تجاه قياس الشروط الابتدائيّة للمنظومة (ظاهره جناح الفراشةButterfly effect).

-        لها ما يسمى بالتغذية الراجعة الموجبة أي أن مَخرَجات مرحلة معينة هي مَدخلات المرحلة التالية(feedback effect) .

-        الاعتماد المُفرَط على تغيّر قيم بعض البارمترات الفيزيقية، مثل تردد مصدر التغذية القصرية للنظام أو قيمة معامل الإخماد أو الاحتكاك، من أجل تحقيقها.


فيما يخصّ الحساسيةَ للشروط الأولية، فإن الشكل(1) يوجزها:


الشكل 1: تميُّز النظم الشوّاشة باعتمادِ سلوكها كثيرًا على قيم الشروط الابتدائيّة

������� تعني هذه الفكرة أن نقطتين ابتدائيتين متقاربتين لمنظومة ما قد تؤولان لحلول مختلفة كلياً. كمثالٍ تبسيطي عن هذه الفكرة قمْ بإلقاء قطعتَين من الورق المقوى في المكان نفسه تقريباً في منتصف مجرى تيارٍ مائي ذي سريان مضطرب ولاحظْ بعد فترة زمنية مسارَ الحركة لكلّ منهما. سوف تجد أن مسارَيهما كانا متقاربَين في البداية وبعد فترة ذهبت كلّ ورقةٍ في مسار مختلف مبتعدةً عن الأخرى. هذه من أهم سمات النظم الفوضوية (الشوّاش) في أن اختلافًا طفيفًا في بداية التجربة قد يؤدي إلى حلّ وسلوك مختلف تماماً عن الآخر، حتى وإن كان الفرق جزءاً واحداً من المليار في قراءات الشروط الابتدائيّة.

������� ومن خلال التجربة التالية، يمكننا بسهولة فهم ميزة أخرى للنظم الشوّاشة.لنفترض أن لدينا نوّاسًا (بندولًا) كرويّا كما هو مبين في الشكل (2).

- التجربة عبارة عن بندول فيزيائي مكوّن من كرة وخيط، حيث الخيط مثبت من طرف وبه كرة معدنية قابله للاهتزاز من الطرف الأخر.

- تُثبَّت عند قاعدة البندول ثلاثة مغانط عند رؤوس مثلث متساوي الأضلاع كما هو موضح بالشكل (3)

- تبدأ التجربة من موضع معيّن معروف في فضاء الطور ونترك الكرة تحت تأثير الحركة الاهتزازية وقوة الجذب المغناطيسي للمغانط، ونسجّل تطوّرَ البندول ونقطة اتزانه الأخير عند أحد المغانط. من الجميل أنه بتكرار التجربةِ من نقطة البداية نفسها فإننا نحصل على نتائج مختلفة ما يؤكِّد حساسيةَ البندول للشروط الابتدائية وأيضاً عدمَ القدرة على التنبؤ بانتظام بالرغم من بساطة المنظومة الديناميكية من حيث درجات الحرية ووجود معادلات الحركة المُفسِّرة لها.

الشكل 3: بالرغم من الابتداء بالنقطة نفسِها تقريبًا فإننا ننتهي إلى نتائج مختلفة

 

تجربه مخبريّة جميلة لفهم حساسية الشروط الابتدائيّة وفضاء الطور الجاذب:

الشكل 2: نوّاس-بندول كروي

وهو نوّاس يتكون من سلك معدني رفيع مثبت من أعلى بطرفِ جهازٍ مُولِّد للذبذبات والطرف الأخر مُعلَّقة به كرة معدنية حرّة الحركة ترسم سطح كرة.ما إن يبدأ المُتذبذب في الحركة أفقياً بتردّد معين عند نقطة التعليق في اتجاه أفقي فإن البندول سيبدأ في الاهتزاز والتأرجح ذهاباً وإياباً ممثِّلاً للحركة التوافقية البسيطة المستقرة على مسار شبه إهليجي ذي دورةٍ تساوي تردّدَ المتذبذب. عجيبُ الأمر أن المنظومة توصف بمعادلات بسيطة ذات درجات حرية قليلة لا تتعدّى 3 درجات وتصف بنجاح الحركة الترددية المنتظمة الناتجة، أي أن المنظومةَ محدّدة تماماً. لكن بإجراء تغيّرٍ طفيف في تردد المتذبذب يتحوّل البندول إلى حركة عشوائية في جميع الاتجاهات ممّا يُفقِدنا أيَّ قدرة على التنبؤ أو معرفة ما حدث من تغيِّرِ الانتظام إلى هيولى (Chaos) تدور بها الكرة في اتجاهٍ مرة وفي الاتجاه المُضادّ مرة أخرى وبلا ضابط معين. هذا القصور في التنبؤ لا يُعزى لقصورٍ بشري أو إلى محدودية النموذج الرياضي التوصيفي ولكنه حقيقة أساسية ومتأصلة وجزء من سيناريو تطور النظم الديناميكية اللاخطية كلِّها وكأن مستقبلَها لم يكتب بعد.

ثالثًا: التناغم والتوافق في حركة جسمَين (two-bodies) إزاء الطلاق والانفصال في حركة ثلاثة أجسام (Three-bodies):

��������� نعرف أن النجاح الرائع لقوانين نيوتن أتى بعد أن وصف بالتفصيل دورانَ كوكب نموذجي مثل الأرض حول نجم مثل الشمس ووجد أن المدار كان إهليجيّاً طالما أنهما مرتبطان بقوة الجاذبية. إذا أضفنا جسمًا آخر لتلك المنظومة الجاذبية (الشكل 4)، فإن الدراسات تبيِّن أن المسافات بين الأجسام الثلاثة -وبالأحرى قوة الجاذبيّة بينها- سوف تتغير باستمرار.

الشكل 4: مسألة التجاذب الثقالي لجسمَين إزاء ثلاثة أجسام

������ تقدّم هذه المنظومة البسيطة أولَ دليل على الحركة العشوائية وغير المنتظمة وغير المُتنبَّأ بها، وتغدو مداراتُ الدوران ككرة خيوط الصوف، وليست منتظمةً كالتي حصلنا عليها من نموذج الجسمَين كما مبيّن في الشكل(5).

الشكل 5: المدار الشوّاش إزاء الإهليجي

������� حاول العبقري الفرنسي بوانكَريه (1854-19112) الإجابة بدراسة حركة الأجسام الثلاثة تحت عنوان فخمٍ من نمط "هل المنظومة الشمسيّة مستقرة؟". بدأ هذا العبقري في معالجة السؤال بمقاربة جديدة عن طريق اختراع ما يُسمّى بفضاء الطور، وهو يختلف كليا عن الفضاء العادي حيث ندرس تغيّر حركة الكمية الفيزيائية مثل الموضع q مع الزمن t. إن فضاءَ الطور شيء أخر حيث يوضِّح العلاقة بين الموضع q والسرعة او بالأحرى كمية الحركة ، وبالتالي أصبحت منظومة الإحداثيات تُمثَّل بالزوج . تمّت مقاربة بوانكَريه في دراسة استقرار المنظومة الشمسية وذلك عبر تخيُّل صفحة وهمية متعامدة على مسارٍ في فضاء الطور (ما يُدعى مقطع بوانكَريه Poincare sections) كما هو موضح بالشكل (6).

الشكل 6: مقطع بوانكَريه في فضاء الطور

�������������������� وفي كل مره يقطع مسارُ الكوكب المقطعَ تُسجَّل نقطة على الأخير، ويلاحظ تقارب النقاط المُسجَّلة ومن ثم تقارب سلسلة الحل الناتجة. وجد بوانكَريه أن الأشكال الناجمة في المقاطِع وبخاصة المناطق التي لم تَظهر بها دوريّةٌ خالصة حيث تكدّست النقاط أعطت إرهاصات عمّا سُمِّي لاحقاً بـالجاذب العجيب أو الغريب (Strange attractor). كمن الاستنتاجُ الرئيسُ لدراسة بوانكَريه أن مسار الكواكب لا يمكن التنبؤ به بدقة لأنه غير دوري على المدى الطويل، أي أن المنظومة سوف تعيش في حالة عشوائية شوّاشة إن عاجلاً أم آجلاً ولفترة طويلة من الزمن لا يمكن الهروب منها أو تجنبها في المنظومة الشمسية.

رابعاً: الجاذبات في النظم الديناميكية:

هناك نوعان شائعان لهذه النظم:

1-  مُشتِّتة للطاقة أو مخمِّدة (مثال حركة كرة بندول في وسط احتكاكي كالهواء، حيث تتوزع طاقة كرة البندول على جزيئات الهواء من خلال الاحتكاك ومن ثّم لا يمكن استرجاعها) وعند رسم حركتها داخل فضاء الطور فإن سرعتَها تعاني من الانكماش متمثلاً في نقصان سعة حركة البندول.

2-  مُحافِظة حيث الطاقة الكلية للمنظومة ثابتة ولذلك تكون مساراتُها في فضاء الطور مغلقةً مثل الدائرة.

لنأخذ الآن البندول كحالة دراسة حيث تُوصَّف حركة النقطة المُعلَّقة في طرفه بمعادلة غير خطيّة لـ θ زاوية رأسِه: ، وذلك لوجود الحدّ . يكمن نمطُ التفكير المُتَّبَع في الفيزياء النظرية في تبسيط المسألة بأن نحوِّلها إلى تقريب خطي شريطة المحافظة تقريباً على السلوك الأساسي للظاهرة المُراد دراستها. يعني ذلك أنه بفرض أن θ صغيرة نحصل على معادلة خطيّة للحركة

، حيث يمكن الحلّ في معظم الحالات بصورة تحليلية(analytical) أو حسابية (computational).

يمكن فهم موضوع الجاذِب من خلال الأمثلة التالية:

أ- البندول المثالي: نفترض هنا أن البندول لا يعاني أيَّ مقاومة ومن ثَم يستمر في الحركة سرمديًّا وتكون الطاقة الكلية مصونة. مسار المنظومة في الفضاء العادي عبارة عن دالة دورية جيبيّة، بينما في فضاء الطور -أي الجاذِب- عبارة عن دائرة مغلقة (الشكل 7). تؤدّي زيادةُ سعة الحركة في الحالة الابتدائية إلى دائرة أكثر اتّساعًا.

الشكل 7: بندول مثالي

ب- البندول الحقيقي: يتعرض البندول في الحقيقة لقوى احتكاك وبالتالي تقل سعة حركته من دورة إلى أخرى مما يجعله يستقرّ حتماً عند نقطة اتّزانه بصورة مؤكدة ما لم يتعرض لقوّة تغذية من الخارج، ولذلك نقول إن الجاذب هنا نقطة (الشكل8 ).

الشكل 8: بندول حقيقي

ج- البندول اللاخطي: هنا لا نستطيع تقريب بـ θ ، بل ننظر إلى معادلة الحركة بصورتها الأصلية، لأن سعة الحركة كبيرة لدرجة أن الكرة قد تصل إلى نقطة التعليق وتدور في حركة دورانية بدلاً من الحركة الاهتزازية، ومن ثَم ينقسم الجاذبُ إما إلى مسار مغلق إهليجي يصاحب الحركةَ الاهتزازية أو مسارٍ مفتوح يعبِّر عن الحركة الدورانية مع وجود فواصِل بينهما (Separatrices). والعجيب في الأمر أن كرة البندول عندما تصل إلى نقطة التعليق لا أحد يستطيع التنبؤ هل هي ذاهبة إلى الحركة الدورانية أم إلى الاهتزازية (الشكل 9).

الشكل 9: بندول لا خطّي

د- الجاذِب مُحدَّد الدورة: Limit cycle

يَظهر هذا الجاذِب عند دراسة البندول القصري(self-oscillatory system) ، وهو النموذج الرياضي المستخدم في توصيف حركة القلب البشري وقد استنتجها العالِم فان دير بول، حيث تحتوي معادلتُه التفاضليّة من المرتبة الثانية:�� على حدّ تخميد للطاقة (يتضمّن الثابت μ). الجاذب هنا مسارٌ مغلق ممثِّل للحركة الاهتزازية، ومع ذلك فإننا لو بدأنا الحركة من الشروط الابتدائية خارج أو داخل هذا السريان المغلق فإن المسارَ سوف يتقارب له قصرياً كما هو موضح بالشكل(10).

الشكل 10: بندول محدَّد الدورة

ه- الجاذِب العجيب strange attractor:

هذا الجاذب هو العلامة المميزة للنظم العشوائية ولسريانها الديناميكي داخل فضاء الطور، فلا يمكن التنبؤ به لأنه عبارة عن عددٍ لا نهائي من المسارات يتميز بالخصائص الآتية:

-        ينتُج عن عدد قليل من المعادلات التفاضلية اللاخطيّة

-        بصفته جاذباً فإن كل المسارات داخل فضاء الطور يجب أن تتقارب له ولكنها لا تتقاطع حتى لا تكون حركةً دورية ( خلافاً لما قد يبدو من الرسم)

-        تعتمد المسارات بصفة مفرطة على الشروط الابتدائيّة بحيث أيّ تغير طفيف فيها قد يؤدي إلى سلوكٍ مختلفٍ كليًّا

-        ينتمي إلى المجموعات الرياضية ذات الأبعاد الكسوريّة fractal dimension

�������������� ويعود سببُ تسميته بالعجيب إلى مخالفته للحدس كونه محتوىً داخل حيٍّز محدود في فضاء الطور وفي الوقت نفسِه يعتمد على أن أيَّ نقطتين متقاربتين في الشروط الابتدائيّة تُنتِجان نمطَين من الحلول المختلفة اختلافاً كبيرًا. وقد اقترح تسميةَ الجاذبِ العجيب الرياضيّاتيّان رُويل وتاكِنز تحت ما يسمى التنافس بين ظاهرتَي المطّ والطيّ في فضاء الطور بشكلٍ مماثل لكيفيّة صنع حلوى التوفي عبر إجراء كثيرٍ من عمليات المطّ والطيّ بحيث أن أيَّ نقطتين متجاذبتين قد تتقاربان أو تتباعدان لحظياً، ومن أهمّ أمثلتِه جاذِب لورنتزو (الشكل 11).

 

المنظومة الشوّاشة الأكثر شهرة (لورنز- قدّيس الطقس):

جاذب لورنتزو ذو بُعد كسوريّ بين 2 و3 ويشبه عيني البومة أو جناحَي الفراشة، وهو محتوىً داخل حيّزٍ محدود من فضاء الطور، رغمًا أنه لا يلاقي نفسَه أو يتقاطع، وهو يقدِّم توصيفًا جيّدًا لنظام الطقس ذي التدفّق الحتمي ولكن اللاّدوري Deterministic non-periodic flow

الشكل 11: جاذِب لورنتزو

يكمن جمالُ دراسة التنبؤ بالطقس كمنظومة ديناميكيّة في عدد من الأسباب المنطقية:

-        يمثِّل تحدّيًا قويًّا لصلاحية القوانين الفيزيقية والعلاقات بين المتغيرات الترموديناميكيّة مثل درجة الحرارة ونسبة الرطوبة وسرعة الرياح وفروق الضغط.

-        يمثِّل اختيارًا رائعًا لقدرتنا الحسابية في تتبع تطور منظومة ديناميكيّة معقّدة يحكمُها عددٌ من المعادلات التفاضلية اللاخطية المقترنة coupled nonlinear differential equations.

-        يقدِّم فوائدَ اقتصاديةً رائعة من خلال تجنب كوارث الأعاصير المميتة وفيضانات الأمطار المُغرِقة والحوادث العرضية الناتجة من التغيرات الفجائية للطقس، مثلاً أثناء عمليات الصيد في البحر.

كان إدوار لورينز مغرماً بديناميكية الطقس وفكرة التنبؤ به وهي من المشكلات العلمية التي لم تغرِ الكثير من العقول النيّرة ربّما بسبب صعوبة معالجتها رياضياً. اقترح لورنز نموذجًا مُبسَّطًا من ثلاث معادلات تفاضلية لا خطية مقترنة، وبعد رسم الحلول في فضاء الطور ينتج جاذب لورنتز. تمثَّل الاستنتاجُ الرئيسي لهذه الدراسة في ظاهرة جناح الفراشة حيث قد يُسبِّب اضطرابٌ طفيف يُنتِجه جناحا فراشة فوق أستراليا إعصارًا فوق لندن بعد أسبوع.

 

 

 

خامساً: مقارنة النظم الديناميكيّة:

يوضح الجدولان التاليان الفروق الجوهرية بين الأنماط الثلاث من النظم الديناميكيّة: المُرتَّب (Order)،الشوّاش (Chaos) والعشوائي(Random) ، بالإضافة إلى الفرق بين النظم الخطية (linear) واللاخطية(Nonlinear).

المنظومة الفيزيائيّة (System)

عشوائي أو إحصائي (Randomness)

شوّاش (Chaos)

نموذج كلاسيكي ذو ترتيب (order)

مثال نموذجي

رمي النرد

السُّحب -الطقس

الساعات -الكواكب

الحتميّة والتنبُّئِيّة

لا يوجد تنبّؤ سوى كوسطيّ للأعداد الكبيرة

تنبُّؤ محدود لفترة قصيرة

عالية الدقة في التنبؤ

تأثير عدم الدقة في قياس الشروط الابتدائيّة

لا شيء سوى الأخطاء

يتزايد عدمُ اليقين أُسيّاً ويصبح هو المسيطر مع تطور المنظومة

ضعيف ويبقى دائماً متناسباً مع الحلّ

درجات الحرية وأبعاد المنظومة

لا نهائي

قليل

محدود

التحكّم

ضعيف

صعب ومخادع

سهل ومتاح

جاذب

لا يوجد

عجيب وذو بعد كسوري

مسار مُغلق (مثل دائرة)

 

لا خطي Nonlinear

خطي Linear

قانون بسيط يؤدي لسلوك معقد،

اختلاف بسيط قي قيم البارامترات يؤدي لتأثيرات ضخمة.

قواعد بسيطة تؤدي لسلوك سهل الصياغة والفهم،

المدخلات تتناسب مع المخرجات تناسبًا خطيًّا

يقينية محدودة وسلوك شاذ يحمل الكثير من المفاجئات مثل التنظيم الذاتيself-organizationsأو التآزري cooperative

يقينية تامة ولا توجد مفاجآت أثناء تطور المنظومة مع الزمن

 

الكلُّ لا يساوي مجموعَ الأجزاء

مجموع تأثيرات الأجزاء يعطي تأثيرَ الكلَّ

مثال: معادلة KdV-Burger

يُضفي الحدّ اللاخطي خواصَّ خلابة للمعادلة لدرجة أنها قد تُنتج موجاتٍ شبيهةً بخواص جسيمات الـ Solitons أو حتى موجاتٍ تصادميةً shock waves.

مثال :

الحل دالة دورية جيبيّة أو تراكُب Superposition دوالّ جيبيّة،

يتغير الحلّ بانتظام طوال تطور المنظومة

سادساً: الكسوريّات: هندسة الكون الحقيقية:

"الجبال ليست مخروطية الشكل، السُحب ليست اسطوانية الشكل والبرق ليس خطًّا مستقيمًا"

������� نحن نعلم أن النقطة ليس لها أبعاد فهي صفريّة البعد D=0، والخطّ المستقيم له بعد مساوٍ للواحد الصحيحD=1 ، بينما الشكل المستوي له بعدان، والحجم يتمّ توصيفُه باستخدام ثلاث إحداثيات. في الحقيقة كانت هناك إرهاصات مبكِّرة حول أن هناك بعضَ الأشكال الهندسية لها أبعاد كسريّة، ولكن الكسوريّات غدتْ علمًا عندما أصدر بنوا مندلبروت (1924-2010) كتابَه الأول بعنوان الشكل والصدفة والبعد form, chance and dimension وقد أعقبه بكتاب أكثر عمومية بعنوان fractal geometry of nature، وقد حوى معظم أفكاره والتي دائماً ما يذكرها مثل أن "السُحب ليست اسطوانية الشكل ولا الجبال مخروطية الطبيعة حتى البرق ليس خطًّا مستقيمًا". إن الطبيعة تحبّ وترغب في الهندسة الكسورية كما يبيّن الشكل (12).

������� إذن من السهل القول إن الهندسة الرسميّة للكون هي الكسوريّة الملائمة لتركيبتها الغنية والمليئة بالتفاصيل الدقيقة والتجاويف الكثيرة والتماثل الذاتي. من الجميل أن نعرف أن الرئةَ ذاتُ تركيب تفرّعي من أجل أن تعطيَ مساحةً سطحية كبيرة مقارنة بالحجم الذي يحويها، ممّا يلائم كفاءةً عظمى أثناء عملية تبادل الغازات في عمليتي الشهيق والزفير.

الشكل 12: أمثلة عن ظواهر طبيعيّة تتجلّى فيها الكسوريّات

������� يشير مصطلح "كسور" إلى شكلٍ مُكوَّن من أجزاء مشابهة للكلّ، ما يعرض التناظرَ عبر المقاييس. في حين تفشل الهندسة الإقليدية في وصف العديد من الهياكل في الطبيعة والفيزياء، توفِّر الهندسة الكسورية إطارًا لقياس تعقيدها الفطري. هذا يدلنا على الحكمة وراء سر تفرعات الأشجار وتجمّعات المجرات واضطرابات الموائع بسبب التماثل التآلفي الذاتي (self- affine) أو التماثل الذاتي الصحيح(exact-self similar) في أنماطها.فقط من خلال استخدام المخططات التكرارية للمعادلات الديناميكية غير الخطية، يمكن توليد مجموعتَي ماندلبروت وجوليا اللتَين تحاكيان الأشكال الطبيعية الخرافية كما هو موضح في الشكل(13).

الشكل 13: أشكال شبيهة بمجموعتَي ماندِلبروت وجوليا

������� الجدير بالملاحظة أن المعادلةَ المنتجة للشكل الرائع غايةٌ في البساطة تُعرَّف بشكلٍ تكراري في المستوي العقدي على النحو ، حيث C عددٌ عقديّثابت (متغيِّر) في مجموعة جوليا (ماندِلبروت).

������� من الجميل لنا أن نتعرف أيضاً على ما يسمى التماثل الذاتي -أو ما يُعرَف أيضًا بالصمود إزاء تغيير المقاس- الضروري لتوليد الكسوريّات من حيث أنها تتولّد عبر تكرارِ عمليّة تقسيمٍ متتالٍ، وكل تقسيم ينجم عنه شكل شبيه بالأصلي (الشكل 14).


الشكل 14: التماثل الذاتي

سابعاً: أنواع الكسوريّات:��

�������������� تنقسم الكسوريّات إلى كسوريّات رياضية وكسوريّات طبيعية أو ذات تركيب يتضمّن عنصرَ العشوائية، حيث لا تكون الأخيرةُ تامّةَ الانتظام، كأن تكون تآلفيّةً ذاتيّاً ��self-affine(أي تحقِّق الصمودَ عبر تغيير المقاس بنسبٍ غير منتظمة في المناحي) أو تكون متماثلةً ذاتيّاً إحصائيّاً statistical self-similar (أي تحقّق الصمود عبر تغيير المقاس بالنسبة لخصائص إحصائيّة إجماليّة)، مع ملاحظة أن الطبيعة لابد أن تعطي كامل الحظوظ للصدفة والعشوائية البنّاءة والخلاقة.

الكسوريات الرياضية الأحاديّة mono-fractals

�������������� يمكن إنشاؤها بواسطة علاقات رياضية صارمة وتكرارية يتمّ وصفها بمتغير واحد، ألا وهو البعد الكسوريّ fractal dimension، ونورد فيما يلي بعضًا من أمثلتها.

أ- مجموعة كانتور أو غبار كانتورCantor Set

�������������� نبدأ بقطعة مستقيمة وليكن طولها الواحد تُقسَّم إلى ثلاثة أجزاء متساوية، ثم يُنزَع الجزء الأوسط لنحصل على جزأَين متساويين. نكرِّر العمليةَ على الأجزاء المتبقية عددًا كبيرًا من المرات حتى نحصل على مجموعة نمطية -تمثِّل التقاطع اللانهائي للأجزاء التي نحصل عليها في كلّ مرة- ينعدم قياسُها وفق لوبيغ، وكذلك بعدُها الطوبولوجي بخلاف بُعدِ هاوسدورف الكسوريّ -والذي يقيس "خشونة" المجموعة قيد الدراسة- الخاصّ بها والمُعطى بـ

حيث N هي عدد الأجزاء بعد عمليه حذف الجزء الوسط و r نسبة التقسيم لنصل إلى قيمة بُعدٍ كسوريّ مساوية تقريبًا لـ 0.6309 (الشكل 15).

الشكل 15: بُعد مجموعة كانتور

������� لقد حصلنا على مجموعة رياضية تحوي عددًا غيرَ عدود من النقاط، وليست خطاً مستقيماً ولا نقطةً أيضاً ولكنها مجموعة هندسية ذات أبعاد كسوريّة. يوضّح لنا المثالُ مدى سهولة اختزال البُعد الخطي إلى بُعد كسوريّ.

ب- منحني كوخKoch Curve

الشكل 16: منحني كوخ

ومرة أخرى نُعيد عملية إنشاء مجموعة كانتور، ولكن باستبدال مقطعَين بالجزء الأوسط كما في الشكل (16) فنحصل على مجموعة كسورية بين الخط المستقيم والمستوي بُعدُها الكسوريّ مساوٍ لـ
.

�������������� تُعطي قيمة البُعد الأكبر من الواحد الصحيح بالقيمة 0.2618إشارةً على درجةٍ معتدلة لتهشّم المستقيم ذي البعد المساوي للواحد. لكَ أن تعرف أن شبكية العين لها بُعد كسوريّ يساوي تقريبًا 1.723 وبالتالي شكلُها الكسوري أقرب إلى المستوي منه إلى الخط المستقيم.

ج- مثلث سيربنسكي Sierpinski triangle

الشكل 17: مثلث سيربنسكي

تجربة ذهنية جميلة: هل التداخل الضوئي عبارة عن لعبة شواشيّة كونية؟!

لبيان وجه النظر المراد إيصالها والتي قد يكون لها مردود فلسفي عميق، تخيّل أنه لدينا مثلث متساوي الأضلاع رؤوسه A, B, C، وأن هناك نردًا أوجهه عبارة عن الثلاثة حروف السابقة كما موضح بالشكل (18).

الشكل 18: لعبة الشوّاش

نبدأ التجربة من النقطة (1) حيث نرمي النرد لنحصل مثلاً على B، فنقف في منتصف المسافة بين (1) و الرأس B، ولتكن النقطة (2). ثمّ نكرّر رمي النرد لنحصل مثلًا على A، فتكون النقطةُ (3) منتصفُ القطعة (2)-A بدايةَ المحاولة التالية، وهكذا نكرّر العمليّة آلاف المرات لنحصل على شكل سيربنسكي الكسوري بكل تفاصيله من التماثل الذاتي الصارم، طارحًا الأسئلة الآتية عن سبب

- انتظام الشكل الناجم على الرغم من وجود عنصر الصدفة الناتج عن وجود النرد

- هناك نقاط متاحة للتكدّس والتجمع، وهناك نقط خالية ممنوعة على لعبه النرد

- بقطع النظر عن أيّ نقطة خارج المثلّث نبدأ منها، فإننا سوف ننتهي داخله.

ولكن السؤال الأهم يبقى: أليس هناك تشابه كبير بين التجربة السابقة وتجربة التداخل الضوئي للفوتونات المنفردة من حيث التداخل البنّاء والتكدس في مناطق واستحالة التواجد في مناطق التداخل الهدّام؟ (الشكل 19).

الشكل 19: التداخل البنّاءوالهدّام للفوتونات

 

كما يبيِّن الشكل (17)، نبتدئ هنا بمثلث متساوي الأضلاع حيث نقسم أضلاعه إلى جزأَين متساويَين ونوصل النقاطَ لنصل إلى المثلث المتوسط الأبيض، وبحذفه نحصل على مثلث منقوص الربع الأوسط، ونستمرّ في هذه الإجرائيّة الرياضيّة مرات عديدة لنحصل على منظومة كسوريّة ببُعد كسوريّ مساوٍ لـ

 

ثامناً: مقارنة بين الكسوريّات الرياضيّة والطبيعيّة:

هناك من الأشكال الكسوريّة ما يخلب الألباب بسبب غناها اللامتناهي. يوضِّح الجدول التالي الفرق بين الكسوريّات الطبيعية والرياضية

الكسوريّات الطبيعية

الكسوريّات الرياضية

هي من نتاج الطبيعة ولذلك من الضروري وجود عنصر عشوائي أو احتماليّ أثناء عمليات تكوينها

تولد من خلال خوارزميات صارمة، والشكل الناتج يكون متماثلًا إلى أدق تفاصيله

التماثل بصورة إحصائية حيث هناك تشابهٌ بصورة تقريبية بين الجزء الصغير عند تكبيره والشكل الأُم

ذات تماثل ذاتي حيث الجزء الصغير عند تكبيره يحمل كلَّ تفاصيل الشكل الأصلي

لابد من توصيفها بعددٍ كبير من المتغيرات مثل البُعد الكسوريّ Df، والإنتروبي DI، والترابطي DC.

 

يمكن التوصيف بعددٍ واحد وهو بعد التماثل الذاتي

شبكية العين � الرئة

مجموعة جوليا

تاسعاً:ميزات الكسوريّات وتطبيقاتُها:

�������� تُقاس الكسوريّات ببُعدها الكسوريّ الذي يعبِّر عن كيفية ملء كائنٍ للوسط المحيط به مقارنةً بالهندسة الصحيحة العادية. معظم الكسوريّات الطبيعية تتراوح أبعادها بين 1.5-2.5، وتشمل المؤشراتِ ذاتَ الصلة التجويفية التي تقيس أحجام الفجوات ودرجات الالتصاق والخشونة والتعرجات. تُولِّد النظمُ الحقيقيّة كسوريّاتٍ عبر التغيّرات الفيزيائية ذاتية التنظيم أو قواعد النمو أو عمليات التطور بدلاً من مجرّد العلاقات الرياضية التكرارية البسيطة. تتطلّب نمذجةُ الكسوريّات الطبيعيّة التركيزَ على الديناميكيات التي تؤدي إلى التعقيد من خلال التدرج. هناك العديد من التطبيقات التي تستفيد من مفاهيم الديناميكا اللاخطية والتحليل الكسوري في مجموعة متنوعة من المجالات من مثل:

- محاكاة أحوال الطقس والمناخ والهيدرولوجيا والزلازل.

- نمذجة أنماط النمو في علم الأحياء وعلم التشكّل.

- تحليل التقلبات والتدرج في التمويل، وتصميم أدوات التداول في الأسواق التجارية.

- تفسير الفوضى في النيوترونات والشبكات العصبونيّة

- تطوير مخططات التشفير باستخدام خرائط فوضوية ذات تعقيد عالٍ

- تحسين شبكات اللاسلكي مع مراعاة تجانس التغطية

- بناء هوائيات كسوريّة لأجهزة الاتصال متعددة النطاق

- تصنيف الإشارات والصور والبيانات باستخدام الأبعاد الكسوريّة

- محاكاة الرسوميّات الحاسوبيّة للواقِع المتضمِّن مثلًا لمناظر طبيعية

- إنشاء فنٍّ وعمارةٍ كُسوريَّين ذوَي خصائص جمالية مُرضِية.

عاشراً: أسئلة مفتوحة أمام الأجندة البحثية للعلوم Open problems:

1.    هل هناك دور للبنية الهندسية الكسوريّة من أجل فهم عمل الدماغ ومن ثم طبيعة الوعي الإنساني وخصوصاً أن البنية الدماغية لها خصائص كسوريّة واضحة؟

2.    يثار كثيرٌ من الجدل حول الطبيعة الكسورية لنسيج الزمكان عند أبعاد بلانك، وخصوصاً أن الهياج الكمومي يلعب دوراً مهماً في مصير كثير من العمليات الفيزيائية. يبدو نسيج الزمكان مثل محيطٍ سلسٍ ومستوٍ عند النظر من الطائرة، ولكن في الحقيقة قد يعجّ المُحيط المستوي بالأعاصير والموجات العملاقة.

3.    هل هناك دور يمكن أن تلعبه الهندسة الكسوريّة في المصالحة بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة لإنتاج نظرية مقبولة عن الجاذبية الكموميّة؟

4.    الأشكال المعقّدة فيها كثير من التعرجات والخشونة والانكسارات، ما يجعل صعبًا استخدامَ المعادلات التفاضلية العادية، ولكن الكسوريات غير تفاضليّة بشكل رئيس، فهل هناك فرصة لما يُسمّى بالحسابات التفاضليّة الكسورية مثل ؟.

 

المراجع:

1-Chaos: Making a New Science, James Gleick,  Penguin Books; First Edition (2008).

2- Chaos in the cosmos, the stunning complexity of the universe, B. Parker, Plenum Press (1996).

3-Chaos, l. A. Smith, oxford University press (2007).

4-Does God play dice? The Mathematics of Chaos, I. Stewart, Basil Blackwell Inc. (1990)

Default Normal Template

عن الضوء الكمومي واختبار أسس ميكانيك الكمّ

On Quantum Optics Testing of Quantum Mechanics Foundations

عبدالله قنيزح، ماجستير في الهندسة الطبيّة من جامعة جياو تونغ-بكين، يعمل حاليّا في شركة أميكو للتجهيزات الطبيّة، طرطوس، سوريا

موجز: نقدِّم هنا عرضاً موجَزاً للضوء الكمومي، هذا المجال الذي يشغل أهمّيّة كبيرة في الأبحاث الراهنة سواء أكانت في المجالات التطبيقيّة -من مثل الليزِر- أو في المجالات النظريّة حيث يمكن اختبار أساسيّات ميكانيك الكمّ عبر تجاربَ تتضمّنه -من مثل تجربة الخيار المتأخِّر (المُسمّاة أيضاً تجربة الممحاة الكمومية).

أولاً) نظرة إجماليّة:

يمثِّل حقلُ فيزياء الضوء مجالَ أبحاثٍ قديمة تعود ربّما لأيّام الإغريق، ولكننا لم نتعلّم كثيراً عن ماهيّته لغاية حوالي بداية القرن التاسع عشر عندما غداً واضحاً أن الضوء عبارة عن أمواج waves -استغرقنا حوالي قرنٍ إضافيّ من الزمن لمعرفة طبيعتها- وتحقّقت أكثرُ الاكتشافات المتعلّقة بالكهرباء والمغناطيسيّة. وأخيراً تمّ تأطيرُ حقلَي الفيزياء هذين ضمن صياغةٍ واضحة وضعها ماكسويل Maxwell عام 1860 بيَّن فيها أن الضوء عبارة عن موجة كهرمغناطيسيّة، وبدأ أن كلّ شيء واضح لغاية بداية القرن العشرين، حيث أضحى جليّاً وجودُ ظواهِر يسلك فيها الضوء سلوكَ جسيمات، ليست تقليدّيّةً بالمعنى المألوف بل تسلك سلوكاً غريباً يجمع بين المظهرَين الموجيّ Waveوالجسيمي Particle. ما كان غريباً وقتها هو ارتباطُ هذه الاكتشافات المتعلّقة بالضوء باكتشافاتٍ تتعلّق بطبيعة المادّة matter، إذ تبيّن أن المادّة أيضاً تسلك أحياناً سلوك موجاتٍ ممّا شكّل صدمةً لفيزيائيي العقود الأولى من القرن العشرين. وضّح ميكانيك شرودينغر الكمومي اللانسبوي Non-relativistic Schrodinger Quantum Mechanics هذه الطبيعةَ الكموميّة للمادّة، بينما عجز عن معالجة طبيعةِ الضوء وذلك بسبب حاجة الأخير إلى معالجة نسبوية. على الرغم من التقدّم في فهم طبيعة الضوء -فرضيّة تكميم الطاقة لبلانك 1900، وتألُّف الضوء من "كمّات" Quanta (دُعيَت فوتونات Photons) في المفعول الكهرضوئي 1905 والذي بفضله حاز أنشتاين جائزةَ نوبل 1921، ثمّ مفعول كومبتون 1923 في تفسير تغيّر تواتر الأشعة السينيّة المتبعثرة عبر عزْوِ اندفاعٍ (كميّة حركة) نسبوي لكمّة الضوء التي اكتسبت هكذا صفةَ الجسيم من حيث امتلاكها لطاقةٍ واندفاعٍ مُحدّدَين-، بقيت طبيعةُ الضوء الأساسيّة لغزاً لغاية سنة 1928 عندما بيّن أخيراً ديراك Dirac عند توحيده ميكانيك الكمّ اللانسبوي مع النسبيّة الخاصّة Special Relativity ضرورةَ تعديل صورة سلوك الضوء المستمرّ continuous الذي تُبرزه معادلات ماكسويل وحياكةِ مفهوم الفوتون ضمن نسيج نظريّة ميكانيك الكمّ، وبالتالي ننتقل من صورة الحقل المستمرّ الكلاسيكي إلى نظريّة حقل كمومي Quantum Field Theory عبر تقنية التكمية الثانية Second Quantization، حيث تُعتبَر مركّبات فورييه للحقول الكلاسيكيّة بمثابة مؤثِّرات تخضع لقواعد تبادُل قانونيّة [1]. بدا ذلك عندها أمراً صعباً على الفهم، وكانت الرياضيّات التي تضمّنها صعبةً نسبيّاً، ولكن شيئاً فشيئاً بدت هذه الاستراتيجيّة قادرةً على تفسير جميع الأمور المتعلّقة بالضوء، وبيّنت أن الضوءَ في جميع مجالات تطبيقه ما هو في الحقيقة إلاّ ضوءٌ كموميّ Quantum Optics.

��������� يكمن الأمر اللافِت للنظر هنا في أن الأمور المُثيرة تحدث عندما تسلك كمّاتُ الضوء-الفوتونات العديدة سلوكاً مترابِطاً Coherent، بعيداً كلّ البعد عن الفوضى Chaos التي تحدث عندما تتصرّف الكمّات بشكلٍ عشوائي Random. يألف العامِلون في مجال الأمواج الراديويّة -وهي نوعٌ من الموجات الضوئيّة ذو أطوال موجيّة كبيرة وبالتالي لا تنتمي إلى الضوء المرئي- وجودَ إشاراتٍ مترابِطة correlated، فالراديو والتلفاز-الرائي وكلّ وسائل الاتّصالات Communications الأخرى تتجلّى في ظواهِر تسلك فيها جميع الكمّات السلوكَ نفسَه تقريباً بدلاً من أن تتصرّف بشكلٍ عشوائي. يصف العامِلون بالأمواج الراديويّة هذه الحالةَ الأخيرةَ العشوائيّةَ بالضجيج Noise، وعلى الرغم من انتشارها الهائل في حياتنا، فإن الجهدَ ينصبّ الآن على تحضير ظروفٍ يتمّ خلق الترابُط Coherence خلالها. يتعلّق الترابُط إذن بتلك الظروف حيث تتصرّف جميعُ الكمّات بشكلٍ متشابه ومنتظَم، ما يعني وجودَ شيءٍ يمكننا التنبُّؤَ به. قابليّة التنبّؤ Predictabilityهذه هي أساس الاتّصالات، فبدونها وبدون انتظام الظواهِر لا يمكننا الاتّصال مثلاً. تعلّمنا الكثيرَ عن الترابُط خلال العقود الأخيرة : عن ماهيّته وعن كيفيّة خلقِه والمحافظة عليه، وكان للعالِم غلاوبِر Glauber الحائز على جائزة نوبل بفضل أعماله في مجال الضوء الكمومي دورٌ كبير في هذا المجال، وعلى الأخصّ فيما يُسمّى بالنظريّة الكموميّة للترابُط الضوئي Quantum Theory of Optical Coherence [2]، وهي تتعلّق بمسألة كيفيّة جعل هذه الأعداد الكبيرة من الفوتونات تسلك السلوكَ نفسَه والقابِل للتنبّؤ بشكلٍ كبير. لقد تمّ تحقيقُ تقدًّمٍ كبير في هذا المجال على الصعيدَين النظري والتجريبي.

��������� يمثِّل الليزِر Laser المثالَ الأهمّ عن التقدُّم التجريبي هنا. الليزر جهازٌ تمّ اختراعُه على مراحِل إذ بدأ في مجال الموجات المكرويّة microwaves ذات الأطوال الموجيّة الكبيرة (التواترات المنخفضة) من خلالِ ما يُعرَف بالميزر maser، حيث اكتشف العلماء بعد الحرب العالَميّة الثانيّة أن أحد استعمالات الرادار هو في جعل هذه الموجات المكرويّة تتآثر وتتواصَل بشكلٍ مترابِطٍ مع مغناطيسيّة النوى، وتمّ اختراعُ مُشِعات مكرويّة microwave radiators تولِّد حزمَ موجاتٍ مكرويّةٍ تتمتّع بالترابُط. لعب تاونز Townes -الذي حاز مع باسوف Basov وبروخوروف Prokhorov جائزةَ نوبل على أعمالهِم في مجال الميزر- دوراً كبيراً في اختراع الليزر (عام 1960) الموافِق لتوليد موجات مترابِطة في مجال الضوء المرئي ذي الأطوال الموجيّة القصيرة. نجح العلماء في تحقيق هذا الأمر من خلال فهمٍ عميق للتآثر Interactionبين الضوء المرئي والمادّة، ولكن ما هو لافت للنظر هو أن عملهم النظريّ هنا كان قائماً على وصفٍ نصف كلاسيكي للتآثر حيث وُصفِت المادّة كموميّاً بينما كان يوصَف الضوء كلاسيكيّاً كحقلٍ مستمرّ، ولذلك كانت نظريّتُهم رغم نجاحِ اعتمادِها في صنع الليزر غيرَ كامِلة، وما عمل عليه النظريّون لاحقاً في مجال الضوء الكمومي تمثّل في إيجاد صياغةٍ رياضيّاتيّة كموميّة للترابُط الضوئي الذي يحقّقه الليزر، عبّرت عن النظريّة الإحصائيّة لسلوك كمّات الضوء تتضمّن مؤثِّراتِ Operatorsخلقِها Creation وإفنائِها Annihilation، أي باستخدام لغة الإلكتروديناميك الكموميّ QED. سمح ذلك في تحقيق تطوّراتٍ هائلة في مجال التقانة وصنع العناصر الضوئيّة الإلكترونيّة Optoelectronic devices بخصائص ملائمة، ولكنه ساهِم أيضاً في اختبار أسس ميكانيك الكمّ وفتح البابَ أمام أبحاثٍ في مجال الحوسبة والاتصالات الكموميّة Quantum Communication/Computers.����

��������� سوف نعرض السماتِ الرئيسةَ لليزر والحالات المترابِطة في الضوء آخذين بالاعتبار وجودَ أدبيّاتٍ غزيرة في هذا المجال، ولكننا سنتعرّض بعدها لمجالٍ أقلّ ألفة، وهو التجارب الضوئيّة التي تسمح باختبار أسس ميكانيك الكمّ ذات المقتضيات المُخالِفة للحدس، وسنختار كمثالٍ في مقالِنا هذا تجربةَ الخيار المتأخّر لويلر Wheeler [3].

ثانياً) تعاريف وأساسيّات:

يعنى الضوء الكمومي بدراسة التآثرات بين المادّة وحقل الإشعاع حيث الآثار الكموميّة مهمّة. يتعلّق قسمً مهمّ من الدراسة هنا باقتضاءاتها فيما يخصّ أسس ميكانيك الكمّ، ولكن السؤالَ الرئيس في الضوء الكمومي يكمن في وجوب تكميم الحقل الكهرمغناطيسي أم لا من أجل الحصول على الصورة الصحيحة للتآثر بين المادّة والحقل الكهرمغناطيسي وكيفيّة توصيف امتصاص Absorptionالأخير أو تبعثره Scatteringأو إصداره Emission . أقنع التنبّؤُ النظريّ بظاهرتَي تحزيم الفوتونات المُضادّ Antibunching-حيث تصل الفوتونات إلى الكاشِف في بعض التجارِب بشكلٍ منفصلٍ وليس معاً كما يتنبّأ النموذج الكلاسيكي- وعَصْر الفوتونات Squeezing -حيث تكون موجة الفوتون "معصورةً" في أحد الاتّجاهات وممتدّة في الاتّجاه العمودي- والتحقّقُ التجريبيّ منهما الباحثين بضرورة تكميم الحقل وبدؤوا يركّزون أنظارَهم على الآثار الكمومية غير الكلاسيكيّة للضوء من مثل التشابُك الكمومي Quantum Entanglement.

��������� الضوء الكمومي هو إذن مجال بحوثٍ تقع عند تقاطع الفيزياء الذرّيّة والجزيئيّة والضوئيّة، وأهم سماتِه المُميِّزة هي تعامله مع الليزرات -منابِع الإشعاع الكهرمغناطيسي المترابط-. من الواضِح الآن أهميّة الضوء الكمومي في حياتنا اليومية وذلك بسبب الاستخدامات المتزايدة لليزرات منذ اختراعها أوائل ستّينات القرن المنصرم: في الطب، والاتّصالات، وعلوم البيئة، وعلوم القياسات، والبيولوجيا، إلخ. علاوةً على ذلك، وخلال العقدَين الأخيرَين من الزمن تبيّن أن هناك خصائصَ كثيرة لضوء الليزر يمكن استخدامُها في البحوث عن أساسيّات ميكانيك الكمّ والفيزياء عموماً، ممّا فتح آفاقاً جديدةً لأفكار وتقانات جديدة في مجالاتٍ من مثل الضوء الذرّي ومعالجة المعلومات. ��������� في الحقيقة، استلزم الأمرُ عقوداً حتى أخذ مُصطلَح الضوء الكمومي معناه الدقيق والضروري لوصف ظواهِر كموميّة، فمن اللافِت للنظر أنه عند اختراع الليزر كان الوصفُ شبه الكلاسيكي لتآثر الضوء مع المادة كافياً، ولم يكن ضروريّاً استخدامُ نظريّة الحقل الكموميّ للضوء -التي تعود في أسسِها الأولى إلى عمل ديراك في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن العشرين-، ولم تتجلّ الظواهِر الكموميّة حصراً إلاّ بعد مرور زمن، وخاصّةً بعدما نجح غلاوبر بتطبيق لغة الحقل الكموميّة للضوء على أجهزة ضوئيّة كلاسيكيّة من مثل مُداخِل مايكلسون النجمي Michelson Stellar Interferometer وكواشِف Detectors الضوء. تكلّم الناس إذن عن "فيزياء ذرّيّة" أو عن "إلكترونيّات كموميّة" لوصف التآثر بين المادّة والإشعاع لغاية 1960 مُركِّزين أكثر على المادّة، بينما أضحى "علمً الليزر" المهتَمّ بمبادئ وتصميم واستعمالات الليزر مجالَ بحوثٍ مهمّاً معتركيزٍ على خصائص الضوء الموافِق عند استقصاء المبادئ الكموميّة لعمل الليزر، وشيئاً فشيئاً غدا مصطلِح الضوء الكمومي مألوفاً [4].

��������� مع تطبيق ميكانيك الكمّ على الضوء، تمّ فهمُ آليّة الكشف الضوئي Photodetection بعمقٍ أكبر، وتمّ وضع الأسس النظريّة للمعالجة الإحصائيّة Statistics للضوء من خلال لغة مؤثِّرات خلق وإفناء الفوتونات. قاد ذلك إلى مفهوم الحالات المترابطة Coherent state [5] كمفهومٍ يميِّز ضوءَ منابِع الليزر عن ضوء المنبع الحراري، وعندما أوجد تجريبيّاً كيمبل Kimble عام 1977 نُظُماً حيث تَصدر الفوتوناتُ عن ذرّةٍ منفردةٍ واحداً فواحداً ازداد الاقتناعُ بأن هذه المعالجة الكمومية الإحصائيّة للضوء تمثِّل فعلاً ما يحدث في نظم الضوء الكمومي.

��������� فتح تطويرُ الليزرات النبضيّة فائقة القصر Ultrashort Laser Pulses-بواسطة تقنيات تعديل الجودة Q switching حيث تكون حزمةُ الخرجِ نبضيّةً وبذروةٍ تفوق بكثير ما يمكن أن ينتجه الليزر لو كان يعمل في مجال الموجة المستمرّة ممّا يؤدّي إلى معدّلات تكرار نبضات أخفض وطاقات أعلى ومدّة أطول- البابَ أمام تطبيقاتٍ كثيرة في مجال فيزياء الجسم الصلب (مطيافيّة رامان Raman Spectroscopy)وفي دراسة القوى الميكانيكيّة للضوء على المادّة، ممّا يسمح بوضع غُماماتٍ من الذرّات في مصيدةٍ ضوئيّة Optical trap حيث ساعدت هذه التقنية على تحقيق تكاثُف بوز-أنشتاين Bose-Einstein Condensation وهو حالة فريدة من المادّة تنبّأ بها العلماء نظريّاً منذ مدّة ولكن لم يتمّ تحقيقُها تجريبيّاً إلاّ بعد فترة.

��������� تمثّلت إحدى نتائج الضوء الكمومي الأخرى المهمّة في تصنيع نُظُمٍ برهنت على صحّة التشابُك الكمومي Quantum Entanglement والنقل الكمومي عن بُعد Quantum Teleportation، وسمحت باختبار أسس ميكانيك الكمّ إزاء بدائل أخرى مثل نظريّة المتغيّرات الخفيّة Hidden Variables Theory.

ثالثاً) الحالات المترابطة

في مجال الضوء الكمومي، تصف الحالةُ المترابِطةُ فيزيائيّاً حالةَ الحقل الكهرمغناطيسي المُكمَّمالصادِر عن منبعٍ ليزريّ وحيد التواتُر، حيث تُصدِر الذرّاتُ فوتوناتِها في اتّجاهٍ واحِدٍ وبالتواتُر والطور نفسهما. رياضيّاتيّاً، تُعرَّف الحالة المترابطة وفق أحد الشروط الثلاث التالية المتكافئة: إنها الحالات الذاتيّة Eigen states لمؤثِّر الإفناء Annihilation Operator (أي الحالات التي لا تتغيّر عند إضافة أو امتصاص فوتونٍ منها)، أو هي الحالات الناجمة عن تطبيق مؤثِّر الانسحاب Displacement Operator(تركيب مُعيَّن من مؤثّرَي الموضع والاندفاع) على حالة الفراغ (الحالة المُعرَّفة بأنّها لا تحوي أيَّ فوتون)، أو -أخيراً- هي الحالات ذات الارتياب الأصغري Minimum Uncertainty State (أي التي تحقّق المساواة في متراجحات هايزنبرغ للارتياب) بتشتّتَين نسبيَّين للموضع وللاندفاع متساوِيَين. يُبرهَن كذلك أن الحالة المترابطة هي التي توافِق توزيعاً إحصائيّاً بواسونيّاً Poissonian لعدد الفوتونات التي يمكن كشفُها فيها، وبالتالي يكون متوسِّط هذا العدد مساوياً لتباينه (مربع انحرافه المعياري). يمكن بتطبيق بعض المؤثِّرات المُعبِّرة عن تآثرات غير خطّيّة تحويل الحالة المترابطة إلى حالة مترابطة معصورة Squeezed Coherent State، حيث يكون التوزيع الإحصائي لعدد الفوتونات المُكتشَفة بواسونيّاً فوقيّاً super-Poissonian (التباين أكبر من المتوسِّط) أو تحتيّاً Sub-Poissonian (التبايُن أصغر من المتوسِّط).

رابعاً) الميزر والليزر [6]

الليزر اختصار لعبارة "تضخيم الضوء عبر الإصدار المحثوث للإشعاع" Light Amplification by Stimulated Emission of Radiation، وهو جهازٌ يُصدِر ضوءً مترابِطاً مكانيّاً وزمنيّاً. يسمح الترابُط المكاني Spatial Coherence ببقاء حزمة الضوء ضيّقةً وبتركيزه ضمن بقعةٍ صغيرةٍ جداً، ممّا سمح بتطبيقاتٍ من مثل القطْع بالليزر والمؤشِّرات الليزريّة، أمّا الترابُط الزماني Temporal Coherence فيسمح بإصدار ضوءٍ بتواترٍ واحِد، فيكون ذا لونٍ وحيد. هناك تطبيقاتٌ كثيرة للّيزرات تمتدّ من مساوِق الأقراص الضوئيّة Optical Disk Drives إلى تجهيزات الإظهار الضوئيّة Laser Lighting Displays مروراً بالطابعات الليزريّة والألياف الضوئيّة والتطبيقات الطبيّة والعسكريّة وغيرها.

��������� يتألّف الليزر من وسطٍ مادّيّ بخواصّ تسمح بتضخيم الضوء فيه عبر آليّة الإصدار المحثوث Stimulated Emission، حيث تتمّ إثارتُه عبر إسقاط ضوء خارجيّ عليه أو عبر حقنه بتيّار كهربائي. يكون الليزر عادةً بشكل حاوية ضوئيّة Optical Cavity تتكوّن من مرآتَين على طرفَي الوسط حيث ينتقل الضوء جيئةً وذهاباً بين هاتَين المرآتَين مروراً بالوسط المُضخِّم، وينفذ قسمٌ منه للخارج مشكِّلاً خرْجَ الليزر.

فيزيائيّاً، توضَع إلكترونات ذرّات الوسط الماديّ في سويّةٍ طاقيّةٍ عليا عبر امتصاصِها لضوءٍ وارِد مثلاً، فتُصدِر الذرّاتُ ضوءاً عندما تعود لسويّـتها الأساسيّة. يمكن أـن يتمّ هذا الإصدار تلقائيّاً فيُسمّى بالإصدار التلقائي Spontaneous Emission ويكون طورُه هنا عشوائيّاً يختلف من ذرّة لأخرى، وبالتالي لا يكون مترابطًا. ولكن هناك آليّة أخرى -الإصدار المحثوث- حيث يحرِّض ورودُ فوتونٍ بقيمٍ محدّدة للتواتر والطورٍ والاستقطاب إصدارَ الذرّات لفوتونٍ بالقيم نفسها للوارِد -في حال كانت السوية الطاقيّة المُثارة أعلى من السويّة الأخرى بمقدارٍ يماثِل تماماً طاقةَ الفوتون الوارِد- كما في الشكل 1 [1] . وهكذا يكون الضوء المحثوث مترابطاً، فتتشارك جميعُ فوتوناتِه بقيم الطاقة والطور، ويكون لها الاتجاه والاستقطاب نفسهما.

��������� تاريخيّاً، تمّت الدراسة والتصاميم الأوّليّة على الميزر الموافِق لتضخيم الموجات المكروية Microwaves وليس على الليزر الموافِق لتضخيم الضوء المرئي، ولكنهما يقومان على المبدأ نفسِه في وجود وسطٍ مادّيٍّ مُضخِّم يوضَع في حاوية رنينيّة Resonant Cavity، ويتمّ خلق تغذيّة رجعيّة Feedback تسمح بتوليد إشعاعٍ مترابِط. تُفيد الميزرات حاليّاً كساعاتٍ ذرّيّة دقيقة، كما أن هناك ظواهِر عديدة في الفيزياء الفلكيّة يصدر فيها إشعاعً ميزريّ محثوث من الوسط بين النجوم Interstellar space.

الشكل 1: آليّة الإصدار المحثوث

خامساً) اختبار تجربة الخيار المتأخّر لأسس ميكانيك الكمّ

دأب العلماء ومنذ اكتشاف ميكانيك الكمّ إلى مناقشة مدى صحّة مسلّماتِه الأساسيّة، وفيما إذا كان ممكناً اختبارُها وفق تجارب تتجلّى فيها الظواهِر الكموميّة بشكلٍ يخالف حدسنا التقليديّ، ومثّل الضوء إحدى أهمّ الأدوات التي مكنتهم من ذلك، سواء أكان ذلك عبر تجارب ذهنية Gedenken أم عبر تجارب حقيقيّة. من بين تجارب كثيرة سوف نناقش تجربةً واحدة، ولكن الاستنتاج يصلح عمومًا لجميع تجارب اختبار أسس ميكانيك الكمّ المُجراة لغاية اليوم.���

يتعلّق الأمر بتجربةٍ مخالفةٍ للحدس تعود تاريخيّاً إلى العالِم ويلر وفق نسختها المعروفة بالممحاة الكموميّة للعالمَين سكالي Scully ودرول Druhl [7]. يقوم مبدأ التجربة على تجربة الشقَّين المألوفة ليونغ Young ما عدا عن أنه يمكننا إزالة شاشة الكاشِف في اللحظة الأخيرة قبل سقوط الضوء عليها مع اجتيازه للشقَّين، وعندها يتوجّه بعيداً نحو مقاريب يمكنها تحديدُ المسار الذي سلكه. يسمح ذلك بتحقيق "خيارٍ متأخّر Delayed Choice" للمراقِب بعد اجتياز الفوتون المُفترَض لحاجِز الشقَّين. بالرغم من توصيف ميكانيك الكمّ لهذه التجربة بشكلٍ صحيح، فإنها قد تبدو مخالفةً لحدسِنا المباشر في أنّ اختيارَنا لجهاز الكشف "بعد" اجتياز الفوتون لحاجِز الشقَّين يُلزمه في لحظة الاجتياز "الماضية" هذه بأن يختار إمّا النفوذ من الشقَّين معاً أو عبر واحِد منهما، وكأن "الماضي لم يعد موجوداً، بل يمكن التأثير عليه، وبشكلٍ يناقض �ظاهريّاً- إذن مبدأ السببيّة Causality" في أن السببَ يسبق النتيجة.

��������� يبيّن الشكل 2 رسماً تبسيطيّاً للتجربة [من المرجع 8]، بينما يعرض الشكل 3 [من المرجع 9] تحقيقاً تجريبيّاً تمّ إجراؤه والتأكّد فيه من مقتضيات ميكانيك الكمّ. كما نرى في الشكل 2 فإن الضوء الوارد من الشقّ يمكنه إثارة ذرّات بلّورة بورات الباريوم Barium Borate (BBO) لتُصدِر زوجَين من فوتونَين متشابكَين: زوج A (B) باللون الأخضر (الأحمر) يتوّجه أحد عنصرَيه A1 (B1) نحو الكاشِف D0 بينما يتّجه العنصر الآخر A2 (B2) عبر موشور prism نحو شاطِر حزمة Beam Splitter (BS) لينعكس عنه نحو الكاشِف D4 (D3) أو لينفذ منه نحو مرآة Mirror (M) بنسبة 50-50% تقوم بعكسِه نحو شاطِر حزمةٍ آخر فينعكس عنه نحو الكاشِف D2 (D1) أو ينفذ منه نحو الكاشِف D1 (D2) وذلك أيضاً بنسبة 50-50%. إذا تمّ الكشف عن الفوتون الوسيط في الكاشِفَين D3 أو D4 فهذا يعني معرفةَ أيٍّ من الفوتونَين A2 أم B2 تمّ رصدُه، وبالتالي عُلِم الشقّ الذي مرّ منه، أي غابَ التداخُل فينبغي على D0 ألاّ يبيِّن أيَّ أهدابِ تداخُل، بينما إذا تمّ الكشفُ في D2 أو D1 لَما علِمنا أيّاً من الفوتونَين A2 أم B2 تمّ رصدُه، ولبقي مجهولاً الشقُّ الذي مرّ منه، فهناك إذن تداخِل يجب على D0 تبيانُه. وهكذا فإن قرار القياس بالكاشفَين D3,4 يوافِق الحصولَ على معلومةِ أيِّ طريقٍ سلكه الفوتون 2، وبالتالي معرفة مسار الفوتون 1 المتشابك معه، بينما يوافق قرارُ القياس بالكاشفَين D1,2 القيامَ بِمَحْي هذه المعلومة، ومن هنا أتت تسميةُ الممحاة. حيث أن التجربةَ توافِق دوماً الكشفَ بـ D0 قبل الكشف بالكواشِف الأخرى، فإن انهيارَ الدالّة الموجيّة Collapse of wave function المُلاحَظ في D0 (تحديد مسار الفوتون أهو عبر الشقَّين أم عبر شقِّ واحِد) تمّ خلقُه عبر حادثةٍ -موافقةٍ للكشف عن الفوتون الوسيط في D3 أو D4 على الأقلّ- وقعت في لحظةٍ لاحقةٍ في الزمن، ومن هنا المفارقة عن كيفيّة تسبُّبِ عمليّةِ قياسٍ ما في انهيارِ الدالّة الموجية في الماضي.

الشكل 2: يُشِع منبع ضوئي على الشقَّين. تسمح بلّورة BBO بشطر الفوتون إلى فوتونَين متشابكَين entangled. يكشف الكاشِفُ D0 "فوتونَ الإشارة" المتحرِّكَ للأعلى ويبيِّن وجودَ أهداب تداخلٍ أو عدمَه. يتلقّى موشورٌ "الفوتونَ الوسيطَ" ليمرّ بعدَها في أجهزة شطرِ حزمةٍ BS ومرايا M. [المرجع 8]

يمكن حلّ المفارقة باستخدام لغة المؤثّرِات في الضوء الكمومي، كما يمكن وباستخدام مفهوم الاحتمالية الشرطيّة لعمليّات القياس على جسيمات متشابكة تبيان اتّساق ميكانيك الكمّ مع التجربة، وألاّ تناقض مع مفهوم السببيّة. في الحقيقة، قام فريقُ كيم Kim [10] بقياس R0k معدّل تعداد الكشف المُشترَك Joint Detection Counting Rate (أي تمّ تسجيلُ عددِ حوادث الكشف المُشتركة خلال واحدة الزمن) للفوتونات بين الكواشِف Dk (k = 1,2,3,4) والكاشِف D�0 أثناء تغيير موضع الأخير ومع جعل الشقَين بعيدَين عن بعضهما بحيث لا تتشكّل أهدابُ التداخَل عنده، وحصل على الرسمَين المُبيَّنَين في الشكل 4 و5.

الشكل 3: تحقيق تجربة الخيار المتأخّر في المرجع [9]. يصدر فوتون وحيد عن مركز الـ N-V، ويُرسَل عبر مقياس تداخل استقطابي طوله 48 م، ممّا يكافئ زمنَ طيرانٍ 160 نانو ثا. يولِّد الـ QNRG أعداداً عشوائيّة 0,1، تجعلفلطيّة الـ EOM مساويةً لـ 0, V0 على الترتيب خلال 40 نانو ثا بعد تأخّر إلكتروني 80 نانو ثا. تُستعمَل إشارتان متواقتتان من الساعة لإطلاق الفوتون المنفرد ولتوليد أعداد الـ QNRG. في مرجع المخبر، يجري الاختيار العشوائي بين التشكيل المغلق والمفتوح (الموافقَين لإدخال شاطِر حزمة خارجي BSinput أم لا) آنيّاً مع ولوج الفوتون مقياسَ التداخل. بالاستفادة من كون الـ QNRG متوضّعاً عند خرج مقياس التداخل، تسمح مثل هذه المُواقتة للفوتون أن يدخل المخروط الضوئي المستقبليّ للخيار العشوائي [2] عندما يكون في منتصف مقياس التداخل، بعد اجتيازه للـ BSinput بفترة معتبرة.��

الشكل 4: معدّلا التعداد R01 وR02 (توافق المنحنيات مواءمةً نظريّةً مع نقاط المعطيات) على المحور الشاقولي إزاء موضع D0 بالمم على المحور الأفقي. نلاحظ وجود عيّنة تداخليّة نمطيّة (مع فرق في الطور بين المنحنيَين) تماثل عيّنةَ تداخُل تجربة الشقَّين الكلاسيكيّة، لأن الكشف وفق D0,1 يقتضي ممحاةً كمومية لمعلومة مسار الفوتون. [المرجع 10]

الشكل 5: معدّل التعداد R03 (يوافق المنحني المتّصل مواءمةً نظريّةً مع نقاط المعطيات) على المحور الشاقولي إزاء موضع D0 بالمم على المحور الأفقي. نلاحظ غيابَ أيّ عيّنة تداخليّة. نحصل على منحنٍ مماثِل من أجل R04. [المرجع 10]

هناك نوعان مختلفان تماماً من ظواهر التداخل في تجربة كيم، فالأوّل يتضمّن تداخلاً لفوتونٍ منفردٍ وحيد، بينما يشتمل الآخر على تداخلٍ لفوتونَين إثنَين. ينجم غيابُ التداخُل عند قياسِ معدّل التعدادِ الأحاديّ في كاشِفٍ واحد D0 عن كون المسافة الفاصلة بين الشقَّين أكبرَ بكثير من عرض الهدب، أمّا غيابُه في معدَّل التعداد الثنائي R03 المشترَك للكاشِفَين D0, D3 فينجم عن مساهمةِ دالّةٍ موجيّة لفوتونَين (1 و2) واحدةٍ لا غير موافقةٍ للمسار B، بينما يتأتّى التداخُل في معدَّل التعداد الثنائي R01 المشترَك للكاشِفَين D0, D1 من مساهمةِ دالّتَين موجيّتَين لفوتونَين (1 و2) توافقان المسارَين A وB.

نستنتج إذن أن ميكانيك الكمّ يتّفق مع النتائج التجريبيّة لاختباره الضوئيّ في تجربة الخيار المتأخّر، ولا انتهاكَ لمبادئه، بل إن جميعَ نتائج الرصد في اختبارات ضوئيّة مشابهة ناجمةٌ عن تداخلٍ لفوتونات متعدّدة، حيث لا يمكن تفسير ظاهرة التداخل اللاموضعيّة والمشتملة لجسيمات عديدة ضمن النظريّة التقليديّة ولا بدّ من تفسيرٍ كمومي لها.

سادساً) خلاصة

يعبّر الضوءُ الكمومي إذن عن ذلك المظهر من الضوء الذي يتعامل مع سلوك الضوء عند "تفكيكه" إلى مكوّناتِه وكمّاته الأساسيّة: الفوتونات، وبعضٌ من هذا السلوك يختلف تماماً عمّا نتوقّعه كلاسيكيّاً للضوء. تمّ توضيحُ أساسيّات النظرية عبر رياضيّات ثلاثينيّات القرن العشرين في أمثلةٍ بسيطة لا تتضمّن أعداداً كبيرةً من الفوتونات، بينما غالبيّة النُّظم الضوئيّة التي نراها تحوي مقاديرَ كبيرةً من الضوء. أحياناً يسلك هذا العدد الكبير من الكمّات سلوكاً مستمرّاً بحيث لا يمكن تمييزه عن السلوك الذي كانت تصفه معادلات ماكسويل، ولكن هناك سياقات كثيرة وأنواع عديدة من التجارِب حيث نرى وبشكلٍ وثيقٍ جداً العلاقةَ بين الضوء وبين الذرّات التي تُصدره أو تُبعثره أو تمتصّه، وكلّما رأينا هذه التآثرات بين الضوء والمادّة بشكلٍ وثيقٍ كانت الطبيعةُ الكموميّة للضوء القائلة بتألُّف الأخير من كمّاتٍ متقطّعةٍ ضروريّةً لفهم ما يجري. هذا هو جوهر الضوء الكمومي، فهو ليس ضروريّاً لتفسير كثيرٍ من ظواهِر الضوء المعروفة، ولكنه شرطٌ لا بدّ منه لفهم تآثر الضوء مع ذرّات المادة، وبعضٌ من هذه التآثرات مثّل أحجياتٍ وألغازاً من وجهة النظر الكلاسيكيّة للضوء.

سابعاً) المراجِع

[1] Dirac P (1930) The principle of quantum mechanics. Oxford University Press, Oxford

[2] Glauber RJ (1963) The quantum theory of optical coherence. Phys Rev 130:2529

[3] Wheeler JA (1982) A delayed choice experiment. Maryland lectures collection,

[4] Scully MO, Suhail Zubairy M (1997) Quantum optics. Cambridge University Press, Cambridge

[5] Glauber RJ (1963) Coherent and incoherent states of the radiation field. Phys Rev 131:2766

[6] Kastler A (1985) Birth of the maser and laser. Nature 316:307�309

[7] Scully MO, Druhl H (1982) Quantum eraser: a proposed photon correlation Experiment concerning observation and �delayed choice� in quantum mechanics. Phys Rev A 25:2208

[8] Demystifying the Delayed Choice Experiments, B. Gaasbeek, arXive 1007/3977 (2010)

[9] Experimental Realization of Wheeler�s, Delayed-Choice Gedanken Experiment, V. Jacques et al., Science, v. 315, 966 (2007)

[10] Kim YH, Yu SP, Kulik SP, Shih YH, Scully MO (2000) A delayed �choice� quantum eraser. Phys Rev Lett 84:1



[1] من الجدير ذكره أن ميكانيك الكمّ اللانسبوي يقدر على تفسير ظاهرة الإصدار المحثوث، بينما يعجز عن تفسير ظاهرة الإصدار التلقائي الأكثر ألفةً -بسبب تشابهها مع ميل النظم في الفيزياء الكلاسيكيّة لتخفيض طاقتها- التي تحتاج لنظريّة حقل كمومية نسبوية للتفسير.

[2] وبالتالي وفق النسبيّة الخاصّة، يمكنه أن يؤثّر في الخيار.

 

عرضٌ لكتاب في مجال تبسيط العلوم:

 

Einstein&#39;s Fridge: How the Difference Between Hot and Cold Explains the Universe

 

سنة الإصدار: 2021

�����������

كتاب: برّاد أنشتاين Einstein�s Fridge

 

بقلم: د. محمد علي حماده

 

يشرح الصحفي الشهير بول سين في كتابه الممتع والسلس بالعنوان الغريب "برّاد أينشتاين" تاريخَ علم الترموديناميك (يسمّى أحياناً بالميكانيكا الحرارية) منذ بداياته أوائل القرن التاسع عشر على يد العالم الفرنسي نيكولا ليونار سعدي كارنو (ليس هناك خطأ في الاسم، فقد اختار له والدُه السياسي الشهير لازار كارنو اسمَ "سعدي" تيمّناً بالشاعر الفارسي سعدي الشيرازي الذي كان لازار كارنو مُعجَباً به) وحتى عصرنا الحاضر ونظرية الثقب الأسود على يد العبقري ستيفن هوكينغ.

(نيكولا سعدي كارنو هو أيضاً عم الرئيس الفرنسي ماري فرانسوا سعدي كارنو ، والذي كان رئيساً لفرنسا منذ 1887 حتى اغتياله عام 1894).

كانت البداية إذن على يد الفرنسي كارنو رغم أن إنجلترا هي من كانت السبّاقة في اختراع وتصنيع المحركات البخارية (والتي كانت بالمناسبة ذاتَ مردود منخفض جداً، ونسبة الفقدُ فيها تصل إلى 90 بالمئة)، ولكن الإطار الفيزيائي والرياضي لكيفية عمل هذه المحركات لم يكن مفهوماً بشكل جيد حتى أتى كارنو ليشرح أنه في أي منظومة لا يمكن إنتاج عملٍ مفيد إذا لم يحصل تبادل حراري بين منبعٍ حراري ساخن و مصرفٍ حراري (sink) بارد في دورة حرارية، عُرفت باسم دورة كارنو (Carnot cycle) ليضع المعادلات الرياضية الناظمة لعمل هذا المحرك، وليبرهن أن العمل المفيد الناتج عن هذا المحرك الحراري يتناسب طرداً مع الفرق في درجة الحرارة بين المنبع الساخن ولنسمها T1 والمصرف البارد ولنسمها T2.

كان كارنو تلميذاً نبيهاً وعلى درجة عالية من الذكاء، فقد دخل مدرسة البوليتكنيك الشهيرة في عمر 16 سنة وتخرج منها بعد دراسة الفيزياء والرياضيات على يد كبار العلماء مثل أمبير ولاغرانج وغي لوساك وبواسون وغيرهم.

ظهرت على يد كارنو فكرة مصونيّة الطاقة (energy conservation) للمرة الأولى، وإن لم يكن ذلك بالوضوح الكافي فيزيائياً أو رياضياً. وبعد وفاة كارنو المأساوية عن عمر 36 سنة (أُصيب بأزمة نفسية دخل على إثرها المصحةَ ليصاب هناك بالكوليرا ويموت بعدها) تابع أفكارَه الفيزيائي الألماني كلاوسيوس الذي وضّح فكرةَ مصونيّة الطاقة مؤسِّسًا للقانون الأول في الترموديناميك القائل بأن الطاقة لا تفنى ولا تخلق من العدم، بمعنى أن كل ما نراه حولنا من نظم ميكانيكية وحرارية إنما تقوم بتحويل الطاقة من شكل إلى آخر، فالمحرك الكهربائي يحوّل الطاقة الكهربائية إلى طاقة حركية والدينامو يحول الطاقة الحركية إلى كهربائية وهكذا.

بعد كلاوسيوس استلم العبقري بولتزمان المشعلَ وأدخل مفاهيم الفيزياء الإحصائية (statistical physics) لدراسة الترموديناميك، حيث يمكن استنتاج الخواص العامة الماكروسكوبية لجسم ما عن طريق تطبيق قوانين الإحصاء والاحتمالات على الجزيئات الميكروسكوبية المُكوِّنة لهذا الجسم، وكذلك وضع بولتزمان الصيغةَ الرياضية لمفهوم الأنتروبيّة (entropy) الغامض والهام في مجال الترموديناميك، والذي يمكن ربطه بكمية الفوضى في جملة ما ونزوعها نحو التجانس، فحين نضع الكريما في فنجان القهوة نجد أنها تنتشر وتتوزع بشكل متجانس مع القهوة ولا تبقى معزولة عنها!

لم تنل مقاربةُ بولتزمان الإحصائية موافقةَ معظم الفيزيائيين المعاصرين، وأثّر ذلك على نفسيته، وفي النهاية أقدم على الانتحار خلال عطلة مع عائلته.

الأنتروبيّة هي أساس القانون الثاني للترموديناميك القائل بأنها تزداد بشكل مستمر في أية جملة فيزيائية (هناك نتيجة لهذا القانون تسمى أحياناً القانونَ الثالث للترموديناميك والتي تقول إن الأنتروبيّة تغدو ثابتة عند درجة حرارة الصفر المطلق أو صفر كالفين، وتساوي حوالي -273 درجة مئوية).

يتابع الكتابُ بعدها وصفَ تطور الترموديناميك وارتباطه بباقي فروع الفيزياء ولا سيما فيزياء الجسيمات وفيزياء الكم، ويروي عن انجازات العالم الأسكتلندي جيمس ماكسويل في مجال الترموديناميك قبل انتقاله إلى مجال الكهرومغناطيسية واكتشافه لمعادلات ماكسويل الشهيرة.

ويقف المؤلف أيضاً عند محطة هامة من تاريخ الترموديناميك وارتباطه بنظرية المعلومات على يد المهندس والرياضي الأميركي كلود شانون، وكيف أن قياسَ كمية المعلومات كلوغاريتم لتابع الاحتمال مرتبطٌ بشكلٍ جذري مع مفهوم الأنتروبيّة في الترموديناميك.

في الفصول الأخيرة يتحدث المؤلف عن إسهامات آينشتاين في مجال الترموديناميك والحركة البراونية، والتي لا يعرفها معظم الناس بسبب ارتباط شهرته بنظريتَي النسبية الخاصة والعامة اللتين غيرتا فهمَ العلم لمفاهيم الزمن والفضاء الثلاثي الأبعاد، قبل أن ينهيَ كتابه بالحديث عن ستيفن هوكينغ وموضوع أفق الحدث (event horizon) والذي يمكن تعريفه بأنه المنطقة الحدودية حوالي الثقب الأسود التي لا يستطيع الضوء تجاوزَها والإفلاتَ منها بسبب الجاذبية الهائلة في مركز الثقب الأسود.

عنوان الكتاب "براد أينشتاين" قد لا يكون مُوفَّقاً بالنسبة لمحتويات الكتاب، ولكنه عنوان مثير يدفع القارئ لشراء الكتاب، فبرّاد أينشتاين لا يحتوي على لحم أو جبنة أو مرتديلا ولكنه يروي بشكل ممتع وسهل تاريخَ علم الترموديناميك على امتداد القرنَين الماضيَين.

 

رابط الكتاب على أمازون:

https://www.amazon.com/Einsteins-Fridge-Difference-Explains-Universe/dp/1501181300

______________________________________________________

 

 

 

 

 

 

 

 

عرضٌ لكتاب أكاديمي في مجال فيزياء الجسيمات:

 

 

سنة الإصدار: 1988، و2000

 

كتاب: النظرية المعيارية وفيزياء الجسيمات الأولية (تا بي تشنج ولينج-فونج لي)

 

يُعدّ كتابُ تشنج ولي أحد المراجع التقليدية المهمة في مجال النظريات المعيارية (Gauge Theories)، المستخدمة في فيزياء الجسيمات الأولية، لما يحتويه من تنوع وتدقيق في موضوعات نظرية المجالات الكَميّة (quantum field theory) الشيّقة والخاصة بهذا الفرع من الفيزياء.

يتكون هذا الكتاب من مجلدين، أولهما الكتاب الأصلي، أما الكتاب الثاني فقد صدر بعد الأول باثنَي عشر عاماً ويتكون من مجموعة من المسائل والمواضيع الإضافية كان الغرض منها تدريب القارئ على حل المسائل وكذلك لتحديث الكتاب الأصلي وإضافة عدد من المواضيع الجديدة.

يناسب هذا الكتابُ طالبَ الدراسات العليا، المختص بفيزياء الجسيمات الأولية، والذي قد أتمّ دراسةَ مقدمةٍ في منهج المجالات الكمية لمدة فصل دراسي على الأقل.

يعرض الكتابُ الأصلي في فصوله الثلاثة الأولى: مقدمة مُقتَصدة عن المجالات الكمية، فهي ليست قصيرة أو طويلة لكنها كافية، بعدها يعرض طرق تنظيم اللانهائيات (regularization schemes) التي تظهر في الحسابات المختلفة للمجالات الكمية، فيمهد بذلك لعملية إعادة التسوية (Renormalization) شديدة الأهمية، وكذلك يعرض موضوعات "معادلات زمر إعادة التسوية" (Renormalization Group Equations) أو كيف تعتمد الكميات الفيزيائية المُقاسة على الطاقة المستخدمة في قياس تفاعل الجسيمات ببعضها البعض.

تختص الفصول الأربع التالية بدراسة تأثير التماثل (أو التناظر symmetry) على خصائص الجسيمات الأولية مع دراسة بعض الزمر المهمة مثل SU(2) ، SU(3)وكذلك نموذج الكوارك وطبيعة التفاعلات النووية القوية وخصائصها.

في الفصول الثلاث التالية، الثامن والتاسع والعاشر، يعرض المؤلِّفان صياغاتِ نظرية الكَم للمجالات المعيارية تحديداً باستخدام طرق تكامل المسار (Path-Integral)، والتي تُعدّ من أهم الطرق لفهم الطبيعة الكمومية لجميع المجالات المعيارية. تُطبق هذه الحسابات على أهم ثلاث نظريات معيارية معروفة وهي الديناميكا الكهربية الكَمية والديناميكا اللونية الكَمية (النظرية الكَمية للتفاعلات النووية القوية) وكذلك النموذج القياسي للتفاعلات الكهرومغناطيسية والضعيفة والقوية معا، أو ما يعرف بنموذج جلاشو-سلام-واينبرج والذي صار النموذجَ الرئيس في فهمنا لفيزياء الجسيمات الأولية ككل.

يتطرق الكتاب في فصلَيه الحادي والثاني عشر لنموذج جلاشو-سلام-واينبرج بالتفصيل ويعرض تفاصيله، ثم يستنتج عددًا من التنبؤات التجريبية المُهمّة للنموذج، مثل وجود التيار المتعادل وكذلك جسيم الهيجز وجسيمات W ,Z، والتي يناقشها في الفصل الثاني عشر.

أما في الأربعة فصولٍ الأخيرة فيعرض المؤلِّفان عددًا من الموضوعات المتقدمة التي أثرت في كثير من مجالات الفيزياء النظرية للجسيمات الأولية اليوم، مثل إمكانية وجود كتلٍ لجسيمات النيوترينو، وكذلك يعرض نظريات التوحيد العظيمة التي تتنبأ بتوحيد جميع المجالات سابقة الذكر في زمرة واحدة مثلSU(5) ، وتبعات تلك النظريات على عمر البروتون، وكذلك إمكانية وجود ظواهر مثل وحيد القطب المغناطيسي الذي تبأ به ديراك وأفكار السوليتون والإنستانتون التي قدّمت لنا طرقاً نظرية جديدة من أجل فهم نظريات المجالات المعيارية بشكل أفضل وبعيداً عن تقريبات نظرية الاضطرابات (Perturbation Theory) المحدودة.

أما بالنسبة للجزء الثاني من الكتاب فبالإضافة لحل عدد كبير من المسائل الجيدة في هذا المجال، أضاف المؤلِّفان عددًا غيرَ قليل من المواضيع الجديدة، ممّا جعل هذا الجزء جزءاً مُكمِّلاً للأول من ناحية المفاهيم والمواضيع أيضاً.

من هذه المواضيع:

-        العلاقات بين طرق تنظيم اللانهائيات المختلفة

-        تطبيقات جديدة لطرق تكامل المسار

-        النظرية النسبية كنظرية معيارية

-        الموصّليّة الفائقة كظاهرة هيجز

-        نموذج سيجما اللاخطي

-        استخدام طرق تكامل المسار في الشذوذات المحوريةaxial anomalies

-        نظرية الزمر ونظريات التوحيد العظمى

وغيرها من المواضيع المتقدمة والتي صارت مهمةً مؤخراً.